تمّكنّ الإعلامُ العربيّ في السّنواتِ الأخيرة من تحقيقِ خطوةٍ لا بأسَ بها نحوَ التجديد و الانتشار , إلّا أن خطوته تلكَ كانت مرافقةً للكثيرِ من الهفواتِ و الاخطاء الّتي ملأت أسماعنا و أبصارنا بالغثِّ و الرديء ,
فإعلامنا اليوم , في عصرِ التقنية و التّطور و سيادة السّياسة و المخطّطات الامبريالية و الراسماليّة و الحروب النفسية , لا زالَ يعاني من مشكلةِ الانتماءِ المٌسيّس و أقصد بذلك الانتماء لسياسةٍ ما تحدّدُ نوعَ ما ستطرحهُ جهةُ الإعلامِ هذه , و تؤطّرهُ في اطارٍ يناسبُ توجهّاتِ و تطلّعاتِ تلك السّياسة و مساحة حريّتهِ الوحيدة هي الإعلان - إن كان لهُ فيها حريّةٌ فعلاً ولم يكن الإعلانُ أسوءَ حالاً منه -
و حكايةُ الإعلانِ هذهِ لوحدها حكاية , إذ أنّ الخطَّ الّذي يسيرُ فيه هذا " الفنّ " يتّجهُ نحوَ تحويلِ الإنسانِ إلى سلعةٍ و مستهلكٍ في الوقتِ ذاته ,
فالإعلانُ يعتمدُ غالباً على طرحِ الانسانِ كمروّجٍ للسّلعة , فترى مثلاً دعايةً لأحد أنواعِ القهوة تقدّمها حسناءٌ ما , تجعلك تظنُّ انّ شرائكَ للقهوةِ سيمنحكَ جمالها بشكلٍ أو بآخر !
هذهِ الحسناء المطليّة بكلِّ انواعِ المكياج تظهرُ لكَ ايضاً في اعلانِ إطاراتٍ أو قطع غيار أو ربّما دعايةً لفندقٍ ما أو حتّى لـِ " كريم " أو لـِ ادواتِ تجميل أو لعطرٍ ما الذي يتعمّد الإيحاءَ بأنّ المرأةَ قد تصبحَ ذاتَ جاذبيّةٍ أكثر باستخدامها و ربّما تغيّر عُمرها و شكلها أيضاً!!
إنّ اعتمادَ الإعلانِ على إثارةِ الرّغبةِ الجنسيّةِ لدى المشاهد و قبول المُشَاهد ذلكَ تحتَ أيِّ مبرّرٍ , ليسَ سوى حسب رأيي تأكيدٌ على " سلعنة " الإنسان و مشاعره .
و الامرُ لا يختلفُ جدّاً عندما يكونُ غرضُ الإعلانِ استغلالَ المشاعرِ الإنسانيّة و القيم النّبيلة و الضّمير لدى النّاس لأجل ترويجِ سلعةٍ ما , كدعاياتِ شركاتِ الإتصالاتِ مثلاً و الّتي توحي لكَ بانّ صلة رحمك لن تكون إلا عن طريقها , أو حتّى البطاقاتِ الائتمانيّة فيِها قد تسعدُ قلبَ امّكَ او زوجتكَ بهديّةٍ تدفعُ ثمنها لاحقاً !
هذا الاستغلال الواضح للانسان بأيِّ طريقة , يحوّلُّ الإعلانَ إلى ساحةِ مزايدةٍ على المشاعر و على القيمِ الانسانيّة و على الخصوصيّة و العلاقة الحميمية للشّخصِ بمن حوله , و يحوّلُ المواطنَ إلى مستهلكٍ يُقبلُ على شراءِ السّلعِ تحتَ تأثيرِ هذا التّنويم الإعلانيّ فيشعرَ ان سعادته لن تكتملَ إلا بزيادةِ الاستهلاك , و ينخفضُ بذلكَ سقفُ طموحاته و أحلامه , و يبدأُ بالتّفكيرِ في سيّارةٍ جديدة أو مصيفٍ ما أو حتّى اقامةٍ في فندقٍ أشبهَ بالخيال .
و حتّى اهتماماته و همومه تُسيطرُ عليها الرّغبةُ في كسبِ المزيدِ لأجلِ تحقيق الاستهلاكِ أكثر و تلبيةِ الهواجسِ الإعلانيّةِ في خياله .
و لا أبالغُ إذ قلتُ أنّي أرى أنّ الاستهلاكَ المؤدلجَ عن طريقِ الإعلان , هو مرضٌ عضالٌ بدأ يتسلّلُ إلينا فيزيدَ من علّاتنا علّة و كأنّ المواطنَ العربيّ ما كان ينقصهُ سوى حمّى الاستهلاكِ تلك .
إنّ توجّهَ الإعلامِ إلى الإعلانِ بهذه الطّريقةِ المؤذية يجعلنا نفكّرُ كثيراً في ماهيّة الطّرح الإعلامي بوجه ٍعامّ , في مدى مصداقيّتهِ كونَهُ سُلطةً أخرى لها تأثيرٌ كبيرٌ جدّاً في المجتمع ,
يجعلنا نفكّر فيما إذا كانَ إعلامُ المسابقاتِ و الرّبحِ الماديِّ و الشامبو و العطور و العلكة و الشيبس ,جديراً حقّاً في تمثيلِ ثقافةِ بلدنا أمامَ الآخرين , و في توجيهِ عقولِ اطفالنا المتابعينَ لهُ غالباً على مدارِ السّاعة .
" فاصل إعلاني و نعود و نواصل "
جملةٌ أصبحت تتخلّل حتّى البرامج الدّينية و الثقافية و العلميّة و نشرات الاخبار !!
ويبقى سؤالٌ أخير :
أينَ احترامُ عقليّةِ و روحِ الإنسان في إعلامِ الإعلان ؟!