(انشطار على مربعات متناقضة )
أظن أنني قضيت وقتا طويلا هنا. يبدو ذلك من حثالة البن المترسبة في فنجان القهوة التركية. من فتات الشوكولاتة المنثور على مفرش الطاولة ,كآثار طبق (تراميسو) لم يعد موجودا. أضع مرفقاي على الطاولة, أفتح يداي كما كتاب, فأسند رأسي على راحتيهما. و أتأمل بيادق رصّت على رقعة شطرنج. لا أذكر أني جلبت رقعة الشطرنج معي. و لا أعلم لم جلبتها أصلا, رغم أني أجلس وحيدا في المقهى.
اقترب مني أحدهم, فطلب أن يلاعبني. أذنت له. و لأنه وحيد مثلي في المقهى, لم أشعر أنني بحاجة لأية أسئلة عن هويته, كي ألاعبه.
ترك لي شرف النقلة الأولى. و بعد تأمّل, حرّكت البيدق خطوتين إلى الأمام.
- يبدو أنك تخفي شيئا- قالها خصمي و هو يقدم البيادق ليفتح الطريق للفيلة- لقد استغرقت نقلتك و قتا غير مبرر من التأمل, و عندما رفعت البيدق فوق مربعات الرقعة, كانت يدك ترتجف..أنت كالمتردد, تخفي شيئا.
قفزت بالحصان فوق بيادقي:
- حسنا, أنا أخفي أسلوبي في اللعبة.
ضحك خصمي:
- تعلم جيدا أني أقصد أبعد من هذا. الشطرنج ليست مجرد مبارزة بين عقلين, إنها –أيضا- حوار بين عقلين. و أنت لم تلاعبني لكي تغلبني و حسب, بل لكي تحادثني. لكنك تخشى مداخل الحوار, كما تخشى النقلة الأولى.
قدّمت بيدقا آخر, كنت بحاجة إلى تحريك الوزير, فلقد بدأت فيلته تهدّدني:
- أعطني سببا واحدا يدفعني لمحادثتك بأشيائي الخاصة؟
- أنا عابر, لا أستطيع فضح سرّك. أنا غريب, لم تقدّمني إلى محيطك. إن أخبرتني بأمرك, فلن أجد من يعنيه أمرك, حتى أكشفك أمامه.
قالها و هو ينطح بفيله أحد البيادق, فيطرده خارج الرقعة.
تقدمت بقلعتي, كانت حركة عبثية. تسمح لبيادقه بالاقتراب من حدودي:
- حسنا , سأخبرك. الصحة ليست بحال جيدة. أذكر أني غادرت المستشفى (التخصصي) في العصر, بعد فحوصات لم تظهر أي تحسّن في الحالة. و لكني من الذهول, لم أعلم كيف انتهى بي الأمر هنا, ألاعبك مباراة شطرنج, في هذه الساعة المتأخرة من الليل.
حرّك وزيره بشكل قطري, فحاصر حصاني:
- لم لا تسمّي الأشياء بأسمائها؟!..(الصحة ليست بحال جيدة)...فلتقل أنك مريض.
- حسنا, أنا مريض.
قلتها, و تركته يغتال حصاني بالوزير. لكني أطبقت على قلعته بالفيل.
- و ما الذي تخافه في المرض؟...أهو الألم؟!
عندها دفعت بالوزير إلى الأمام مهددا الملك..كانت نقلة انتحارية, و لكني أردت أن أقول له:
- كش ملك!... ماذا تريد مني؟! ألا يكفي أني أخبرتك أني مريض؟!
- على رسلك..أخبرني ولا تخف. فأنا عابر, لا أستطيع فضح سرّك. أنا غريبٌ, لم تقدّمه إلى محيطك.
كان بإمكانه أن يغتال وزيري, إلا أنه اكتفى بإبعاد الملك.
حينها, قتلت أحد بيادقه بالوزير, حفظا لماء الوجه, و استعادةً لإيقاع اللعبة الذي كان هادئا:
- سأجاريك...أنا لا أشعر بالألم الآن, فكيف أخشاه؟..أقصد أنني و إن كان يتنظرني الألم مع تطوّر المرض, فإني لن أستوعبه حتى أتذوقه؟ و لن يخفيني كثيرا ما أسمعه من المرضى حولي. أليس الألم تجربة ذاتية؟
قفز بحصانه إلى الأمام, و هو يقول:
- ألا تخشى جحيم جهنم؟!
- طبعا!
- كيف تخشاها و أنت لم تجرّبها؟!
- حسنا..لأنني..لأنني أحرقت إصبعي بكبريتٍ حينما كنت صغيرا !
قلتها, و أنا أشاهده يباغت بحصانه الوزير الذي عفا عنه من قبل.
أكملنا اللعبة صامتين بعضا من الوقت. ثم بادرت بنبرةٍ لا تخلو من ترددّ:
- أتصدق أني لم أخبر أهلي بعد؟ لم أخبر أصدقائي أو العمل؟ كنت حريصا على إخفاء زياراتي إلى المستشفى. و التخفيف من شأن الأعراض التي أشكوها.
لقد وصل خصمي بأحد البيادق إلى نهاية الرقعة, فحدّثني و هو يستبدله بالقلعة المطرودة:
- حسنا سأتفهّم ذلك..فليس ثمة عودة بعد إخبارهم. سيُلزمك محيطك بتقبّل الحقيقة. المرض بالنسبة لك الآن حقيقة ذاتية, يسهل عليك إنكارها, يسهل عليك القول أن زياراتك إلى المستشفى, الفحوصات التي تجريها, و الطبيب الذي تقابله, كل ذلك كابوس ستستفيق منه بأية لحظة, كابوسٌ لا يعيشه أحد سواك. أما إن أخبرت أهلك فلا ثمة عودة, سيصبح المرض حقيقة موضوعية, يذكّرك به الجميع و يسألك عنه الجميع.
اعترضت بالفيل قلعته الجديدة.. و وضعته في مربعٍ يهددّ منه القلعة و الحصان:
- لا ليس ذلك يا عزيزي...أولا, لا أريد إخبارهم لأني لا زلت في مرحلة الفحوصات, و لن أجعلهم يقلقون و لمّا أتأكد بعد. و ثانيا, أخشى أن يدفعهم القلق على صحتي عن حرماني من الحياة, حرماني من مواصلة الإنجاز. أقصد أني أخطط مع زوجتي للإنجاب, و لا أريد أن يدفعها الخوف من مرضي, أو الخوف من المستقبل على حرماني من الإنجاب. كما أنني أنتظر ترقيةً إلى مرتبة مدير قريبا, و لا أريد أن يحرمني علمهم بالمرض من ترقيتي.
و بالوزير التف خصمي على الفيل الذي كان يهدد قلعته:
- أنت لا تخشى التوقف عن الإنجاز..لا تخشى الحرمان من الحياة..أنت تخشى الموت!
نقلت القلعة بشكل أفقي حتى أحاصر بها ملكه في النقلة التالية:
-لحظة...و من أنت حتى تحدثني بالموت و الحياة؟!
- أنا العابر الذي لا يستطيع فضح سرّك. أنا الغريب الذي لم تقدّمه إلى محيطك. إن لم تصارحني بما لديك, فليس من السهل عليك أن تجد غيري لتصارحه.
- حسنا..سأصارحك.. و لكن أقنعني أولا كيف عرفت أنني أخشى الموت من كلامي.
اقترب بحصانه كي يحاصر قلعتي إن تجرأت على الملك:
- أنت تقاوم الموت بالإنجاز..أنت تبحث عن الخلود بأية طريقة.. بابنٍ يحمل اسمك, أو حتى بلقب (المدير السابق).. و لكن صدّقني,إن نقلك المرض إلى العالم الآخر, لن يبهجك أن يظل ذكرك من بعدك, فالحسابات هناك مختلفة..إنها مختلفة!
حينها قفزت بالبيدق إلى حدود رقعة الشطرنج, و استبدلت به الوزير:
- أتعلم أني أستطيع إنهاء هذه المبارة معك بأية لحظة؟ أن أغلبك و أتخلّص من حديثك المزعج في أية لحظة؟
- أنا و أنت نعجز عن إنهاء هذه المباراة. بل أنا و أنت لا نريد لهذه المباراة أن تنتهي. الزمن و الظروف هي الكفيلة بحسمها. في كل مرة أضيق على ملكك أترك لك مخرجا, و أنت فعلت المثل. أتذكر حينما اقترب الوزير من...
و ضع النادل الفاتورة مقاطعا, و قال بشيءٍ من النزق:
- متأسفين... و لكن ينبغي أن نغلق المحل.
نظرت إلى خصمي و على وجهي نصف ابتسامة:
- فلنلتقي هنا غدا.
لا أعلم لم افترض النادل أني كنت أحدّثه حتى يقول:
- المحل تحت أمرك كل يوم.
أخرجت من محفظتي خمسين ريالا فوضعتها بسرعة كي لا يدفع خصمي الفاتورة. بدأت بطي رقعة الشطرنج كي أعيدها معي. تعجبت حينما رأيت النادل يطويها معي. بل أكثر من هذا, لقد سحبها من بين يدي قائلا:
- دعها..إنها ليست مهمّتك!
صعدت عيناي بدهشة إلى وجه النادل. و عندما ارتدّت إلى ما بين يديه, كانت رقعة الشطرنج قد ذابت في مفرش الطاولة المرقّط بمربعات حمراء و بيضاء!
لم ينتظر النادل حتى أستوعب ما حدث, وبد أ بقلب الكراسي على الطاولة, و من بينها كرسي خصمي الذي لا أذكر أنه غادره. لقد غاب كطبق (التراميسو) الذي لم يعد موجودا, و لكن هذه المرة دون أثرٍ يتركه على الطاولة!
خرجت من مقهى (الركن الإيطالي) و بدأت أتلفت بحثا عن سيارتي, لقد أزاحتها زحمة شارع التحلية إلى موقفٍ بعيد. سرت إليها و رأسي مطأطأٌ إلى الأرض, أسترجع على مربعات الرصيف , حركات البيادق على رقعة شطرنج لم تعد موجودة, مثل طبق (تراميسو) بلا آثار على الطاولة, أو وجه غريبٍ قد أصبح في ذاكرتي مثل لغز فسيفسائي.
لم أتأمل وجه خصمي كلّه,و كل ما تبقى منه أحجار فسيفساء تنتظر أن تنتظم في صورة. حينما أقبل نظرت إلى عينيه فقط ,و حينما حدّثني نظرت إلى فمه فقط, مرة نظرت إلى جبهته, و مرة تأملت أنفه. و بمجرد أن جلست في مقعد السيارة, اكتملت في ذهني صورة عنه. صورة تذكرني بالوجه الذي أراه في مرآة السيارة!