بـائـعـة الـبـوظـة
جميلة هي الذكريات، تعيش بداخلنا وبقلوبنا وتأتينا بين فينة وأخرى لتحرك مشاعرنا اتجاه أحداث جميلة وقعت بالماضي مع أشخاص أعزاء على قلوبنا ، فنتذكر تلك المواقف والأحداث الجميلة فتثير بنا نشوة سعادة وفرح لا توصف ونتمنى لو يعود بنا الزمن للوراء لنستكمل تلك الأوقات السعيدة لنعيشها مرة أخرى مع من نحب.
باحد أيام الصيف القائظ بشهر حزيران الماضي كنت أعاني مثل غيري من زملاء العمل من إرتفاع درجات الحرارة وإجبار الشركة لنا لأخذ ساعة إستراحة بوقت الظهيرة فكنا نعاني من مرارة الحرارة ومرارة الرطوبة المصاحبة التي لا تنفع لها مكيفات السيارات أو البيوت في تبريد الجو فكانت هذه الساعة هي جحيم لا يطاق لنا فلا المكيف يبرد الجو ولا الماء البارد أو المشروبات الغازية تفيدنا، ولم يكن يرطب أرواحنا سوى حبات البوظة التي كنا نتكاسل من شرائها والخروج من العمل بسبب الجو الملتهب، وبينما أنا مغادر مقر عملي ذاهبا إلى المنزل أستوقفتني الإشارة الحمراء فكان علي لزاما الإنتظار فازدادت المعاناة بسبب حرارة الجو .
و فيما كنت بانتظار فتح الإشارة وأداعب نسمات برودة المكيف لعلي ارتاح قليلا، وجدت نفسي أغفو غفوة خفيفة تنقلني إلى عالم آخر، عالم جميل ممتع هو عالم الأحلام وجدت نفسي ببلدي فلسطين الغالية أسير بطرقاتها وشوارعها وبين مزارعها، هنا لافتة تشير إلى اتجاه مدينة القدس وهناك لافتة تشير إلى اتجاه مدينة رام الله ، وهناك فلاحين في قراهم يحرثونها ويزرعونها بمختلف النباتات، كما رأيت أبناء شعبنا الذاهبون إلى أعمالهم ومدارسهم.
وفجأة استوقفتني لافتة شدت انتباهي كثيرا ؟؟؟؟ لافتة تشير إلى مدينة نابلس، ما أحلاها وما أحلى قراها الجميلة ، شددت الخطى بسرعة إلى مدينتي الجميلة مدينة نابلس لأصل قريتي وأرى أهلي وخلاني وسرت بطريقي بين أشجار الزيتون و اللوز والبلوط مستمتعا برائحتها الزكية وبرؤية قطوف العنب المتدلية تثير شهية كل جائع منهك، وبينما أسير مسرعا أصابني من الجهد والبلاء الكثير بسبب حرارة الشمس فأصبت بالإعياء ولم تعد قدماي تتحملني وكدت أقع لولا إني رأيت شجرة وافرة الظلال كثيرة الأغصان جميلة بمظهرها وثمارها، فأسرعت الخطى إليها لعلي أجد ما يقيني حر الصيف الحارق .
وبينما كنت جالسا تحت الشجرة أحاول التخفيف عن نفسي من حرارة الجو متمنيا للنفس بكأس ماء بارد أو بعض حبات من البوظة، رأيت ضوءا ساطعا كأنه النور بروعته وجماله وفجأة ظهرت فتاة جميلة من هذا النور هي أشبه بالملاك الطاهر، بل هي الملاك بعينه من جمالها وحلاوتها وسحر عينيها وجمال شفتاها، هكذا هي بنت بلادي الغالية دائما جميلة و رشيقة .
نظرت إليها وأنا مدهوش من هذه الزائرة الجميلة وسرحت بخيالي التي قاطعته بكلامها العذب يخرج من بين شفتاها مثل الألحان الموسيقية، يا مرحبا وسهلا بك زائرنا الكريم ببلادك الجميلة، بلادك التي اشتاقت لك ولرؤيتك و التي تريد أن تحضن أبنائها وتجمعهم من الشتات إلى حضنها، وتظلهم بخيمتها وتجمعهم بعد فرقة.
فقلت بعد أن زال اندهاشي: والنعم بهذه الأرض التي منها خرجنا إلى الدنيا ومنها منبتنا ومنشأنا هي بقلبنا دائما أبد الدهر لا ننساها مهما فعل بنا الاعداء لكننا مشردون وتائهين ببلاد أخرى نعيش شوقا وحنينا لبلدنا الغالي.
رأت الملاك الطاهر حالتي وما بي من أعياء فغابت قليلا وعادت لي لتقدم لي ما لم ارى بحياتي ما هو اجمل ولاأروع منه، أصناف متنوعة ومختلفة من البوظة منها على الأحمر ومنها على الأبيض ومنها على الأصفر ومنها المغطى باللوز وجوز الهند ومنها ما هو مختلف ألوانه بعلبة واحدة، ياه ما أحلى هذه البوظة الطيبة تفتح الشهية وتبرد على جسمي الملتهب من حرارة الجو، لقد شعرت ببرودة البوظة قبل أن أتذوقها، شدني هذا الكرم الجميل حتى نسيت ما بي من أعياء وتعب وأنشغلت بإمتاع عيني بما قدمته ملاكي الطاهر، احترت ماذا أفعل وماذا أتذوق فمن جمال ما قدمته نسيت الحرارة وتقلبت حالي إلى برودة جميلة ممتعة ونشاط أحسن.
بقيت على حالتي هذه للحظات ولم افق منها إلا بعد سماع صوتها الجميل العذب وهي تقول لي تفضل يا إبن وطني الغالي تذوق من جمال بلادك وخيرها، فلم أوفر وقتا وبدأت بإلتهام ما قدمته ملاكي الطاهر من هنا ومن هناك آكل البوظة بشراهة كأني أول مرة أتذوقها ، وبقيت أتذوق البوظة بأشكالها المختلفة حتى شعرت بصدري كأنه قطعة من القطب الشمالي وانتعشت كثيرا وأحسست كأني ولدت من جديد، تعجبت ملاكي الطاهر من تصرفي هذا وتظرت إلي باستغراب فقلت لها مهلا يا إبنة بلدي الغالي مهلا لا تظني بي الظنون، أنا فلسطيني المهجر عشقت بلدي قبل أن أراه وسكن وطني بقلبي وارتبطت مشاعري به فأصبح حب وطني يسكن بقلبي يغذي مشاعري بأوتار العشق والهوى لكل ما هو ببلدي الغالي، أصبح حب وطني بقلبي يمدني بأسباب الحياة والقدرة على العيش بها.
وطني الغالي مهما كنت بعيدا عنه فهو بقلبي أشعر به وأحزن لما يصاب به، وأفرح لأبنائه ولشرف إنتماؤهم لوطنهم أفرح كثيرا لنضالات إخوتي فمنهم من يقدم دمه شهيدا ومنهم من يقدم حياته اسيرا ومنهم من يقدم ماله وأبناؤه، وطني مهما الغالي هو أنا وأنا هو.
عندما قدمتي لي البوظة لم املك نفسي وانغمست فيها التهاما فهي من فتاة وطني وملاكه الطاهر وطني الغالي وعشق وطني يعيش في ، وأريد كل شي من وطني أن يعيش بداخلي فيلتحم بدمائي وبشراييني ويغذي لحمي ونفسي فيعيش معي للممات.
فتبسمت ملاكي وقالت: والوطن وأبناؤه يبادلونك الشعور نفسه وأنت تعيش فيهم وبقلوبهم ومنك يستمدون العزم والصمود.
وتجاذبنا أطراف الحديث لبرهة من الزمن وأخبرتني ملاكي عن وطني وجماله حدثتني عن جبال الخليل وروعتها وعنبها وأهلها، كما حدثتني عن القدس ومآذن القدس، مرورا بقرى نابلس ومدن فلسطين وجبالها الشامخة، جعلتني ملاكي أشعر كأني بوطني ولدت فيه وعشت فيه وليس ابن غربة.
واستمرت بالحديث ورواية القصص عن بلادي وشعبها الجبار حتى أزف موعد رحيلها فوقفت لتودعني بنظراتها الجميلة وبكلامها العذب وأنا منجذب نحوها بعقلي وبقلبي، وفجأة تذكرت دفع ثمن البوظة التي ألتهمتها فمددت يدي إليها بثمن البوظة، نظرت إلي بنظرة عتاب وقالت يا ابن بلدي الغالي أنت العزيز الذي نفتقده جئتنا من بلاد الغربة عائدا إلى وطنك إلى شعبك فأفرحتنا بطلتك وبحضورك فأحببنا أن تشاركنا ما نحب وما نعيش به، فلا نأخذ ثمنا ممن عشق الوطن وعاش الوطن بقلبه.
ولم أفق على نفسي إلا على زوامير السيارات التي تطالبني بالتحرك لعبور الإشارة الخضراء، فابتسمت ابتسامة خفيفة معبرة عن فرحتي بهذا الحلم الجميل الذي تمنيته واقعا، وشعرت ببرودة البوظة تنعش صدري فانتعشت بذلك اليوم انتعاش لا يوصف رغم المعاناة من حرارة الجو اليومية، وتذكرت بأني على موعد بأكلة بوظة من محل مشهور بالأردن وقت الإجازة فتمنيت لو يسرع الزمن خطاه حتى يقترب موعد إجازتي.
------------------------------------------------
مستوحاة من وعد بعزيمة على البوظة لم يتحقق