رزق اللّــه
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس
فتح رزق الله حنفيّة الماء السّاخن . . . ترك السّطل يمتلئ بهدوء . . . تناهى إلى سمعه صوت أجشّ يناديه: «أنت أيها الطّياب الأجرب أما تسمع؟» قال:« لا أظنّ أنّ ماء جهنّم سيكون اسخن من هذا !» حمل السطل وانطلق كالمارد. . وقف قرب رأس الرّجل كانت أكداس اللّحم والشّحم تتحرّك يمنة ويسرة كلّما هزّ رجلا أو يدا. . . وكان يشخر كالثّور المذبوح . . . بسرعة أيّها الكلب النتن ! إنّني اختنق! » رفع رزق الله السّطل عاليا حتى كاد يلامس السّطح ثم افرغه فوق بطن الرّجل السّمينة ! . . .
عندما كان رزق الله يطوي الأرض خارج الحمّام، كان صياح الرّجل المحروق يصله حادّا وينفذ داخل أذنيه كالمسامير الصغيرة . . . التفت وراءه . . . رأى جماعة من الرّجال يجرون خلفه . . . عض على أسنانـه وجـرى كالمجنـون . . .
هذا الحمّام اللّعين أكلني. كان يوم أموات داخله ألف مرّة، اشتغل كالشيّطان من الصّبح حتى المساء. اغسل أبدان بني ادم ولا أتأفّف، أطليهم بالصّابون واسكب فوقهم الماء الدافئ. . . وهم يتلذذون . . . يتلفّت وراءه . . . يحدّث نفسه . . . «اجر يا ابن الكلب إنهم يقتربون منك ! »يقف المارة يراقبون هذه المطاردة . . .
«لعن الله البطالة التي قادتني إلى هذا الحمّام التّعيس. . . قال لي صاحبه «اعمل عندي وستكسب ذهبا» وصدّقت ذلك المخادع، غسلت له المناشف والفرش. كنست بيوت الحّمام، جلبت الحطب لبيت النّار، أشعلت الموقد صيفا وشتاء. عملت «طيّابا» داخل الحمّام وكنت بالكاد احصل على رزقي . . . والملّعون يمنّيني يقول:« اصبر يا رزق الله الصبر مفتاح الفرج، في الشهر القادم عندما يفتح الله علينا برزق كثير سوف أعطيك أكثر اصبر يا رزق الله لا تتعجّل الكسب. . . » وكان ابن الكلب يكسب وأنا أتفرّج ... بني حمّاما آخر، ونزلا، اشترى حقل زيتون وأشياء ثمينة أخرى. وأنا أتفرّج وامنّي النفس بشتاء آخر يكثر فيه روّاد الحمّام. ..
« اجر يا رزق الله... اجر... اجر...» لكنّ الأيدي الغليظة كانت أسرع منه.. امتدت له كالبرق. . تخبّط كالفرخ المذبوح صاح. . . شتم . . .عضّ الأصابع المحكمة قبضتها على يديه ورقبته . . ثم رويدا رويدا هدأت ثورته وانقاد لهم . . . اركبوه أول تاكسي صادفهم في الطريق وقادوه إلى مركز الشرطة .
ادخله شرطي زنزانة وأغلق وراءه الباب. . . شمّ رائحة قذرة. . . اتكأ على الجدار. . . أحس بلسعة البرد تسري داخل لحمه. . . في تلك اللحظة تذكّر والده. رآه بقامته العالية وبنيته الضّخمة يبتسم له في الظّلام «رزق الله يجب أن تقوم بالحراسة هذه الليلة! سأنام عندكم في البيت ! »كنت صغيرا. لم أتجاوز السادسة من عمري. لكنني لم أكن اعرف طعم الخوف . . . كنت اقفز فوق السّطح كالجدي . . . أقف السّاعات الطّوال أراقب الطّريق وأزقزق كالعصفور عندما أرى ضوء أوّل سيّارة فيخرج والدي من البيت. يطلع بجانبي، يحدّق في الضوء، ويقول: «لا ! هذه ليّست سيّارة الشّرطة ! »أو «هذا كميون الحاج مرزاق» أو «هذه سيارة الإسعاف» لم أكن اعرف لماذا كان أبي يخاف ضوء السيّارات حتى جاء يوم تخاصمتُ فيه مع أطفال الحيّ، ضربت سامي ابن العمدة على وجهه فأسلت له الدماء وهربت . . . جاءت جدّته وراحت تشتمني وتعيرني بوالدي . . . أطلت أمي من شقوق الباب وقالت لها: « قطع الله لسانك يا عجوز الشؤم أبو رزق الله سيد الرجال ورزق الله سيكون سيد أطفال الحارة والأيام بيننا . . .»
ومن الغد، سألت الأطفال الكبار عن السّجن فقالوا لي: «إنّه منزل كبير، به بيوت كأقفاص الوحوش المفترسة في حدائق الحيوانات !» وسألتهم :«لماذا إذن يذهب أبي إلى تلك البيوت القذرة فقالوا انه يسرق من مال الأغنياء !»
ومرّت الأيّام والأشهر والسنون ولم يعد أبي سيد الرجال . . . ولم أصبح سيّد أطفال الحارة. . . خرجت من المدرسة. . . أكلنا الجوع حتى شبعنا، ولبسنا العراء . . . عملت صبيّا عند العطّار والخبّاز والنجّار والحدّاد. صفعني الحاج مرزوق مرة وقال إنيّ لا أصلح لشيء وطردني من دكانه.
وهمت في ارض الله الواسعة حتى وجدت نفسي أخيرا في الحمّام أفك رزقي من وسخ روّاده . . . أبادل تعبي وكرامتي بقوت والدتي . تحمّلت غضب الزّبائن وتدلّلهم حتّى طفح بي الكيل هذا اليوم ! أجهدت نفسي في غسل جلد ذاك الرجل السمين، ولم يكن يعجبه شيء . . . اغسل هنا ...لا. . . هنا... افرك رقبتي. . . حرك مفاصلي. . . طقطق لي عظامي. . . صب علي الماء الفاتر. . . وتجرأ فسبني قال إني تعمدت صب الماء الساخن فوق رأسه. . . ولست ادري كيف خطرت ببالي تلك الفكرة . . . وضعت السّطل تحت حنفية الماء الساخن. . . راقت لي الفكرة. . .
ثم كان ما كان . . .