هاملةٌ أنا ، و لنْ أستقيل من هذه الحياة طالما هناك ثمة طاقة لا تزال تضيء طرقات داخلي ، أنا الساخرة من أرباب العبثية و العدمية ، اليوم أجعل من نفسي نصبا عدميًا تذكاريًا في ميدان مدينة كل " عدم " بها يتظاهر في اليوم مئة مرّة أو تزيد !
حتى الكتابة صديقتي الأريبة التي عادة ما تصحبني بسموٍ يكاد يشف روحي ، تغضب لغضبي و تفرح لفرحي و تثور لثورتي ، اليوم أجدها تجدد ولائها بأنها ها قد ركعت لي هاملة أيضًا ..
في الكتابة مُدن كبيرة بها ملاجئ للأيام ، تنفجر كما نبال من نار و تُحدث حرائق على الورق ، و من سيمضي بدلو النار إلى حقل النصوص سيزرعَ ألغامًا أدبية و بيادر حكمة ، لو أحكمت العقول قراءتها لقطفت الحقائق قبل مواسم الحصاد ، و غنّت أناشيد الفلاحيّن الرعوية لسكنى مدن الصهيل بكل نشوة و اعتزاز..
لكننّي هاملة ، نعم هاملة يا صديقة ، فلا مُدن الكتابة سكنت قلمي و لا أغنيات أهل الريف الرعوية قشرّت عدميتي ، هذه !
أتحفظين سرًّا ، أُغنيتي الوحيدة هي أنثى حكيمة جدًا ، سرقتها من أرض نينوى و آشور ، كانت تعبر الشارع بجوار ضفة دجلة وحيدةً ، و في السماء على مسرحٍ كبير لا سياج له ، هناك يجلس جمع غفير من الشعب و السلطة و الشرطة و الحرس الجمهوري أيضًا ، يشاهدون أُغنيتي الباذخة و هي تجوب مملكتها ليلًا ، حتى داهمت أوتارها نار عظيمة فتكت بكينونتها المائية / النورانية ، من ضريحِ شاعر بكى كثيرًا على حمورابي العظيم ، و قد تبخرّت بعض الأوتار حتى لفظتها طبقة الجو لتلوثّها بأرواح الجن ،
و حين أوشكت موسيقى الأغنية على الفناء تمامًا ، استعجلَ الخلق ـ جمهور السماء ـ كل فرقَ الإطفاء لإخماده في آخر طوابق الأغنية الآشورية ... و بقيت هاملة و لا تزالْ ، اصغي السمع جيّدًا لملائكة السماء الرابعة بجوار القلم لا يزالون ينتحبون على فناء بعض عظمة آشور ، و على وجه الخصوص الأغنية ذات المقامات الشرقية ..
لمْ تموت ، و لم تنته حتى الآن ، لكنها هاملة ، أوتدركين ذلك يا صديقة !؟
صافحها عزرائيل بيديه العملاقتين ، مصافحةً فقط ، كان كريمًا عكس المتوقع ، بيد أنه لمْ يصلب روحها ، بل أبقاها هاملة ، و ثمة سهمٌ أخذ يدور و يدور حول عينها اليمنى ، أتعلمين لِمَ ؟
ليلتقطَ للوداعِ صورة تذكارية بلقطة احترافية يعترف بها الثقلين ،
و هاهي بقايا غباره تؤكد على أنه هرب بالصورة ، و هو يتأمل بينه و بين نفسه أن يصل في موسم العيد لتقرع له الطبول و تضرب الكؤوس إذا ما جاء خبر فناء الأغنية الأشورية عن مملكتها ..
و بضاحية لها مروجها الخضراء بالسماء أيضًا ، عقدت مكافأة ضخمة جدًا تقدّر بعربة من لجين و لازورد يقودها بيجاسيوس و يباركها مينوس لمن يأتي بخبر فاعلية الأغنية الهاملة ..
- و لِمَ كل هذا !؟ هي أغنية هاملة فقدت بعض ملامحها إثر حريق تسببّ به كاتب على ورق سريع للإشتعال و هو رثاء الحمورابي ، يا صديقة لو أن شوبان أو فيلفداي أو تشايكوفسكي أو حتى محمد عبد الوهاب ، رشّوا رتوشًا خفيفة لتحولت بقايا الهاملة لأغنية سلام ترحيبية يقدمّها الحرس العسكري في السماء لأهل الجنّة إبان الدخول ..ثمة مبالغة منك يا سميراميس ..
- يقول " خيلوس " ـ ملك نينوى المتوفى ، و الذي كان من ضمن الحضور للحفلة التي بثت المشهد المفجع لأغنية آشور الجميلة ـ بحسرة فقد فظيعة ، و هو منفي بمملكة العوالم السفلية ـ أن أوتارها أشبهُ ما تكون كنخلة مريم نهزها و ما من رطب يتساقط !!
لا تدهشي من معرفة خيلوس بالعذراء أو حتى بالمجدليّة ، و هو السابق لهم بمئات السنين ، ليست مفارقة تاريخية ، فسكنى الأضرحة ، لهم عالم آخر يرقبون به كل الأزمان .. منهم من يُحرم من المتابعة ، و منهم من يصبح هامل ، بعيد جدًا عن كل مايحدث ، لأنه باختصار لا يكترث للحمقى أهل الأرض ..
ويح قلبي يا صديقة ، تلك الأغنية الهاملة وحدها المسندة دون بقية ، لا أتباع لها بل هي واحدة أحد ، عُرج بها للجنّة و هُبط بها بلا أرض . هي من تُبكى الحواس و تنكأ جرح الملائكة ، هي من تجعل الحروف ثملى مداوية لتصير الكتابة على نوتها غرفا لغسالات تدور بحرفية عالية لتغسل النفوس و تمحو بطاقة الذنوب ..
هي هاملة لأنها تلظّت بشظايا كتابية ، خسرت جزء من عظمتها كما خسرا الأخوان أنصاف الآلهة عظمتهم في رامايانا فالميكي ..و لم تخسر شيئًا ، لا تزال حتى الآن متجسّدة بكل لحن خالد ، بكل أُغنية رائعة مصلوبة زلفى للجمال ، بكل اسطورة أدبية تذكر أبولو رمز الغناء و الموسيقى..
أمّا أنا ، فهاملة ، هادئة ، تحترق الحروف بجواري و بين يدي و لا أكترث ، و لا أذكر أنني مصابة بداء ضغط الكتمان و لا بلوكيميا التبلّد ، و رغم ذلك ، ها أنا ذا أنبش أنف السماء ، لتخبرني أكثر عن فجيعتها مذ اسطورة غسق الآلهة التي سقط بها الألمان حتىْ لحظة العروج بروح سميراميس للسماء بعد وفاة مليكها ، علنّي استفيق و أخلع رداء الآنسة الهاملة ..
لكنني لازلت أبصر الحرائق في الأفكار تحضن الغابات و المزارع و الحقول بمازوخية ، و لا زلت أتمعنُ في حفلةِ الحرق العتيدة ، حتى و أنا في تبددّي هذا ..أصيّر الأمر باللا يستحق !
لن أجعل هناك مساحات للعجب ، و لا للتساؤل ، لا ما يستحق ..
لكن اعلمي أيضًا يا صديقة ، أن السماء أخذت من الأرض الماء كله ، و لا يغرنّك ما لدينا فما هذا إلا انعكاس تصيّره لنا الحواس ، صادرت السماء الماء و جعلت للأرض ما يسقي عطش قاطنيها من الدماء الفكري و الإرهاب النفسي حتى ضجّت الأم البسيطة و هي تستسقي للسماء ، و ما أديم الأرض إلاّ جثث التأجيل ، فالسماء لا تحتطب و لا تطعم من سكنه الدنس *
سموًا بالكتابة ، مدنها و أريافها ، و لأنَّه إذا خرج َ الحزن ُ للثرثرة ، أصبح َ الفم/ القلم ذيلاً للكلام .. سأصلب الحزن حيًا ، و لنْ أحمّل القلم / اللسان ما يثقل كاهله لأجل شذرة من أحد أولئك الذين يسدون عطشهم بقارورة دماء من تأويل و ظنون ،يقين و تحيّز ..
أيها الإهمال بربك أخبرني من أين لي بمطر / زلال ، لأخلق لك لغة تصنع لنا أرضًا جديدة ..
فأرضُ الله واسعة جدًا ، و لكن الضيق بالنفوس ، و لنحجز مواعيد لنوسّع مساحات المشاعر بالنفوس لكي نستحق شرف الحياة على هذه الأرض المنتحبة للسماء كل حيّن ..
ذات يوم ، سأعثرُ على حذاء أُغنيتي التي أحترق نصفها الألوهي ، أو قد يأتي الأمير و معه فردة حذاء و يعيد سيناريو سندريلا ، لكن بعبثية أكبر ، و بقوة تضبط السياق ..
- صه ، الروح تترجّل .. اصمتي ، اصمتي ، فأنا هاملة!
و لأن لا شيء يستحق جرح مشاعر الآخرين سأراف بك أيتها الروح ، لذا حلقّي كما تشائين :
الأغنية الأشورية احترفت و فقدت نصفها الألوهي ، أمّا أنت فبعد الحرق فقدت يديك الاثنتين بيد أنك لن تستجيبي لكف الحرائق و لا لنداء اضرامها أيضًا ، فالهاملة لا أيادي لها ، كيف ستعانقين الغيوم و يداك مغلولتان !
- لست مغلولة و من غل سيأتي بما غلَّ به يوم القيامة ، ثمة أحلام و أمنيات طارت بها بجعات بيضاء ظننتها هاربة من علييّن فإذا بها جمعت منيّ ضحكات و ذكريات و صيرتها لي ديونًا ، سأبدأ أسدد اقساطها على شكل " إهمال " لأن مافي جعبتي يهدهد خيبتي و يعدني أن بالإهمال حياة ، و إن لأولي الإهمال لحياة .. هكذا قرأت
- سميراميس ، انظري الشارع طويل جدًا و يحتاج لغناء ..!
صه ، سأغنّي " أنا هاملة "
سميراميس