د.باسم القاسم
ـــــــــــــ
* * *
بعْد بَالغ التّرحيب ، وَ الشّكر ..
ممَيزة هي البدَاية بمصْطلحٍ مُهمّ كَـ " الظاهراتية "
وَ مِن أجمل مَا قرأتُه عنها - مَع جَمال ما كتبتَه - التالي :
:
[ تباشير الظاهراتية في القراءة النقدية ]
فاطمة الشريمي
إن عمق المعنى يتأصل في جسد الكلمة .. هو المعنى الآخر الذي يكوّن جسرا بين التجرد و التلبس .. هي بالضبط حالة أشبه ما تكون بالشكل و جوهره ..
المعنى هو الذي يصل بين الطبيعة الإنسانية التلقائية و بين المفاهيم التي تقدم لنا هذا السلوك الذي يختلف من شخص لآخر .. و على هذا الأساس نحن نتناقض في تحليل السرد الروائي أو النثيرة أو الشعر.. و نلجأ أحيانا لنحيل الطبيعة إلى المنطقة و هذا بحد ذاته يعتبر محايثة و تجريد من الشعور الكتابي ليضحي العمل الأدبي شكلا بنيويا يهتم بالصياغة أكثر من الفكرة .. و ربما نعيش هذا التوارد بين خواطر القراء و الكتاب في حين ينشأ هذا التواصل بالمعنى أو بمعنى المعنى ..
إن معظم الصور في حياتنا لها ارتباطات ذاكرة .. و ليست ارتباطات شعور روحانية كما يزعم البعض .. و هذا ما أتاح لنا كتاب أو شعراء أو روائيين أن نخلق فنا متلاحقا كسلسلة من المعاني التي تجعلنا نستنتج الواقع من خلال الطبيعة الإنسانية بكل حضورها و غيابها و ثباتها و انكسارها من خلال النص التصويري حيث لا تخالطه عقد الترميز التي يظن القارئ لوهلة أنها عبثية أو أنها لا توصل المعنى ... رغم أن كل رمز له دلالة و كل دلالة هي شكل الجوهر و الجوهر هو المعنى ..
فكرة الظاهراتية :
لعل من المهم جدا أن نلقي الضوء على أحد مبادئ الظاهراتية أو الفينومينولوجيا و التي تتناول الصورة الشاعرية في نطاقها الخاص و في حدود كينونتها دون النظر إلى محيطات من الماضي أو الذاكرة المسبوقة , و في هذا لا شك تضاد و تعاكس مع محاولات علم النفس في تفسير و قراءة الشعر حيث يعتمد علم النفس بشكل وثيق في بناء النص على المحصلة الذاكراتية , و لكن كما يقول غاستون باشلار ( و إذا تركنا المحلل النفساني يتكلم لحددنا الشعر كزلة لسان مهيبة ) , و الإنسان لا يلقي الشعر من نفسه الباطنة عبثا لكنه الشعر أحد أقدار الكلام , و علينا أن نتخلص من عادات النفسانيين في التأويل إلى ماوراء الحاضر و نتعامل مع الشعر على أنه تعبير آني يشق طريقه إلى الأمام وحده و دون أي مداخلات و أن كل صورة شعرية متفجرة عن فوهة مختلفة , و بهذا نحن نقرأ الشعر بكونه الخاص و دون أن نربطه بصور قد تبدو لنا قريبة من الوهلة الأولى و كأننا نحاول التقريب بين عناصر متضادة , و هكذا يستحوذ القارئ بأنانية على إحساس الشاعر و كأنه يقول ( ليتني كنت الصورة , إنني أتخيل نفسي فيها , ليتني الذي كتبتها ) و هذا مالا نريده حتى نحافظ على حقوق الإحساس المكتوب ليبقى كل شيء خالص لعمله.
و الفكرة من هذا المبدأ الظاهراتي هو أن نرسم خط سير الصورة الشعرية في التأمل الشارد من خلال إعادة تأهيل التخيلات , و أركز على كلمة ( الشارد ) و التي نقصد بها الخروج من العالم الواقعي دون الذهاب إلى عالم محدد , فأنت – على سبيل المثال - تشعر بالحر الشديد و بهذا التأمل الشارد فإنك لا تتخيل نفسك في مصيف على الفور , و لكنك تظل تنحدر و تمر بمشاعر غريبة و في طبيعة الحال سوف تتخيل نفسك في مصيف في النهاية , لكن إذا أردت أن تخلق صورة شعرية مبدعة عليك أن تظل في هذا الانحدار و تُعمل مخيلتك التأملية , بأن تتأمل الحالة كما هي , كما قلنا سابقا ( في كينونتها الخاصة ) , ( مثلا :- لا تصف قلقك بكلمات وصفية و لكن حاول أن تصفه بمشهد كامل دون ان تلتفت لصيرورته أو نتائجه فقط استعمل بعض العناصر التي سببت القلق و بعض الأشخاص و قم بتصويرهم في سيناريو صامت متناولا أصغر التفاصيل و كلها من خلق الخيال ).
و لصعوبة تفسير الحراك الداخلي أو ما خلف الوعي حيث لا يمكن أن يسير تأويل نص وفق آراء خارجية تأخذ الظاهراتية هذه المهمة و تحاول أن تجد سبلا أكثر امتدادا على صعيد التعبير الكلامي للشعر و هي في هذا تواجه قوتين , قوة محدودية اللغة و عدم محدودية التأملات الشاعرية.
ببساطة نستطيع أن نقول عن هذا العمل أنه إيجاد حقائق الأفكار الشعرية في نطاق الوعي دون المس بمقاصد الذوات الناتجة عنها و من ثم تناولها بوسائل المعرفة التجريبية الإنسانية العامة و تحليلها و تحويلها على مساحة أكثر اتساعا.
نماذج في القراءة النقدية :
1- روبرت بلاي :
العتمة ، العتمة في العشب ، العتمة في الأشجار.
حتى الماء في الآبار يرتجف.
الأجساد تشع بالعتمة ، وأزهار الأقحوان
معتمة ، والخيول التي تحمل أثقالا كبيرة من القش
إلى مخازن الحبوب العميقة حيث الهواء المعتم يتقدم
من الزوايا.
التحليل :
لقد وضع روبرت بلاي هنا نمط العتمة كقالب للوحدة , و قارب الربط بالتجسيد في قصيدته تماسك المعنى على ظل الصورة المتحركة.. و حاول أن يوحد الشعور بالوحدة ليصبح المعنى واردا على نحو متقارب بالنسبة للقارئ أكثر منه تلاعبا تأويليا ..
يقول ( العتمة , العتمة في العشب ) بدأ بمجمل الحالة التي يستشعرها مما حوله ,( العتمة ), ثم راح يبحث عنها في المادة , فيقول ( العتمة في العشب ) كأنه يراه أنه عشب كثير متراص متشابه يتحرك بانسجام كأنه لا يتحرك , لونه واحد و طبيعته واحدة و صيرورته واحدة , إنه مساحة مزدحمة بالتشابهات و هو يراها تجسيد للعتمة , ( العتمة في الأشجار) , و رغم أن الشجرة مثال للحياة و العطاء إلا أنه يرى شجرا متسمرا متخشبا شجر يحمل أوراقا متشابهة كذلك , ربما يحمل بعض الثمار الغير ناضجة , الأشجار التي تحدد الرؤيا و تسد طريق الريح , رغم هذا فهي لا تعطي الضوء و لا تحمل الهواء كالنسيم , ربما كان حينها يتصور الشجرة مجنونا محنطا متصلبا كأنه يعيش منفاه في الداخل , هكذا هي العتمة , التي لا توحي بشيء متغير أو جديد , ,,, إلخ في الوصف .
لقد عبر عن العتمة بالمشهد و هذا قمة الشاعرية , لأنه منطلق من التأمل الكونيّ , في النهاية حصل على تعريف كامل للعتمة , المتمثل في إزدحام العشب بلا فائدة , في الشجر المحنط , في مياه الآبار المنغلقة في اضطراب متواصل , في الأجساد التي تقف على حافة السوداوية , في أزهار الأقحوان التي نبتت من تلقاء الطبيعة أو المطر و لا أحد يعتني بها أو ربما كان وحدة يعتني بها دون أن يجد منها التواصل الداخلي بين المادة و الإحساس - كما يريد- , في الخيول المسيرة التي تحمل القش ليختزن في مخزن عميق لا يتجدد فيه الهواء و لا الضوء , حيث الأركان كذلك تخزن العتمة النقية واصفا نقائها بقوله ( الهواء المعتم يتقدم من الزواية ).
و السؤال الممكن هنا ؟
ما هي مسارات الإلهام التي تبعها بلاي لوضع نهايات الشعور بالعتمة على ورق ؟ّ
لننطلق من صورة صغيرة جدا و هي جو معتم بعد انتصاف الليل و بلاي صامت و يتأمل هذا الاجتياح الخانق , ما الذي استرجعه من الماضي حينما اتسعت عيناه بسبب العتمة ؟ّ من أين تأتي ؟ّ إنها تنزاح لتغطي الأشياء كأنها ليل قريب . لماذا تنتشر بهذه الطريقة ؟ كيف تبدو الأشياء الآن ؟ الإسطبل .. الخيول . زهر الأقحوان الكثير النائم , الأشجار في البيئة المحيطة , السكون المعتاد . مخزن القش الذي يؤوي الأركان بهواء خاص لاستقبال نوع من العتمة . و بالنظر للتفاصيل التالية بعين العمر نستطيع المقاربة و تكوين مسارات لها آفاق . و هكذا خلق بلاي العتمة من حالة سوداوية يشعر بها عن طريق مشهد كامل وضعه بخياله منذ اللبنات حتى آخر اللمسات.
و إذا أمكنك أن تسأل بلاي ذاته ( ماذا تعني لك العتمة ) ؟ّ.. ستعود له تلك الآفاق محمله بأسماء الأشياء الممسوسة بنفس الحالة لتلوح له في حالة أشبه ما تكون بطوفان .
هذا التعبير الممتد عن العتمة و الذي لا شك يقصد أكثر من وجهة تفوق الاعتبارات السطحية بنقدية المقاييس المعروفة حتى الآن و التي جفت منذ زمن على نصوص البدائيين .
2- وديع سعادة \ الموتى نيام :
كانوا يتقدَّمون خطوتيْنِ ويلمِسونَ
قبلَ نسمةِ الفجرِ جذوعَ الشجر
وتحتَ نظراتهم تُثْمِرُ غصونٌ
في ثلجِ كانونَ الثاني
وكانت مناجلُهم تحنُّ إلى الحقول
والهواءُ بينَ القُرى مُتأهِّبًا دائمًا لندائهم
حينَ فجاةً تحوَّلَ قمحُهُم إلى ضلوعٍ
وصارَ النسيمُ عُشبًا ينمو على أجسادهم.
التحليل :
إنه يتحدث عن أرواح الموتى المتلهفة للوجود و التي تخرج و تطوف في وقفات التحولات اليومية و يتقدمون خطوتين من ساعة إلى ساعة أخرى حيث الخطوة هي رمز الحراك المتغير و يلمسون جذوع الشجر لتسري فيهم الحياة بمائها و منطقها كأنهم يصنعون حلقة وصل بينهم و بين الشجر , و هكذا كلما توجهوا لاكتشاف المتغيرات بعد رحيلهم , انطلقت نظراتهم بدفء يترقب الحياة كشمس فجريّة لم تحترق بعد , و كلما طلعت و توجهت أثمرت الغصون دلالة على سير تحرك الحياة في المخلوقات منذ الأطراف, و كان هذا في ثلج كانون كأنه يرى برودة الموت التي يلتحفون بها هي الثلج الذي كلما طافوا تفتت منهم و ملأ المساحات التي يمرون بها , ثم ينتقل إلى ذاكرتهم التي كانوا يمارسونها على شكل عادات يومية من الزراعة و العودة إلى الديار حتى عبقت بأصواتهم , لكن يعود إلى حقائق المطارح التي يملأونها , حين يصير القمح فوق قبورهم شيئا يغلفهم كالضلوع , ثم يمر نسيم ليعيدهم إلى الشعور الأزلي كلما هب عليهم , و إن استخدام لفظ ( العشب ) عبارة عن دلالة على بداية انبثاق حياة مستقلة و مستقرة من نوع خاص في مكان معين و جلاء غيبوبة معينة إلى مواقعة معايشة .
إذاَ فكل هذا الكم من الصور الشعرية التي يقيسها البعض بمقاييس غابرة يضع بعض من النقاد على كف من ريشة , و يجعلنا نستعمل منظار آخر للقراءة الشعرية الجادة .