لأنَّ حدوثكَ هو أكثرُ الأشياءِ إرباكاً للأزمنةِ / هو أكثرُ الأزمنةِ إرباكاً للأشياءِ :
فإذا أتاني صوتُكَ كأجنحةِ صباحاتِ النّحلِ و العَسَلِ , علِمتُ أنَّ سنبلةً ستنبتُ فوقَ كفِّي , و على كتفيَّ ستتطاولُ ياسمينةٌ و في قلبيَ سيزهرُ الحزنُ المتكوّمُ كالشِّتاءات .
أمنيةٌ واحدةٌ تكفيني , لأكتشفَ الغيماتِ عن قُرب و أتنبّأَ بحدوثِ المطرِ دونَ أن أُمضي قُبلةً كاملةً في البُكاء , دون أن تسقطَ الكلماتُ من فمي إلى الأعلى تبحثُ عن سِرِّ المطرِ المجهولِ قبلَ عينيك !
واحدٌ فقط من كلّ توقّعاتِكَ يكفي ليُلبسَ ساعةَ موتيَ الرّمليّة رداءَ الرّبيعِ المتوقّفِ عن الجريان , يكفيها لتعتلي صولجانَ الزّمنِ المتوقّفِ بينَ أصابعك , فتعودَ بُرعماً صغيراً في حقولِ الأملِ المُشرقةِ بالقمح !
ثمَّ تعلّمتُ فُراقاً بعدَ آخر كيفَ أتفهّمُ صمتَكَ في لحظةِ حبّ , و كيفَ أتحوّلُ من فراشةٍ تراودُ صدركَ عن الدّفءِ إلى خيمةٍ تحتضنُ جمركَ اللّاهثَ دونَ أن تحترِق ..
وحدهُ صمتكَ القادرُ على إعادةِ ذاكرتي إلى الأرضِ , بِلا أجنِحةٍ و بِلا مَطَرٍ و بلا أَزمِنَةٍ .. و بِلا ذاكرةٍ أيضاً .
وحدهُ صمتكَ إشارةُ الوقتِ لي باقترابِ انقشاعِ سِتارةِ العتمةِ الهادئةِ عن رئتي و دخولِها زمناً جديداً من اختناقِ الحريّةِ و اوكسجينِ الحياةِ الضّئيل و كوابيسِ النّزفِ و الكواكبِ النّائية و الغربةِ المستحيلة و مغاورِ الكتمانِ و الطّيرانِ الأخيرِ في لحظةِ حبّ !
أمّا أنا , فكلَّ ما ارتكبَني الصّمتُ , وشَتْ بي كلُّ التّفاصيلِ الصّغيرةِ إليك ,حُمرةُ الإرتعاشةِ على شفتيّ المرتبكتين , زُرقةُ الحنينِ على أظافري المتجمّدةِ و زلازلُ الإنتظارِ تعصفُ بركبَتي فلا تهْدَأ .
ادراكُكَ لي , للكلماتِ قبلَ أن تُغادرَ حنجرتي , للحرفِ قبلَ أن ينطقَني , للهواءِ قبلَ أن يمسَّ شُعبي الهوائيّة في نفسٍ عميق , للضّوءِ قبلَ أن يلامسَ بصري , للألمِ السّاكنِ جوفي قبلَ أن يُطلقهُ الهدوء المؤقّتُ , لاشتياقي لكَ و غربةِ ثوانيّ في غيابك و لجذوةِ اللّهفةِ في داخلي قبلَ أن تمسّها رياحُ صوتكَ فتغمرُ الأشياءَ بالحرائق ,
هي قدرتُكَ على منحِ الدّهشةِ للتّفاصيلِ الصّغيرة ,
و بعثِ الأزمنةِ من جوفِ البردِ و المنفى و الوقتِ الغريبِ التّائهِ في مجرّاتِ البُعد .
لأنّكَ رجلُ الغموضِ الجليّ و الثّلجِ الدّافئ و حقولِ الأزهارِ الّتي لا تُحصى , و ضياءاتِ الكواكبِ قبلَ أن تُصبحَ حواسَّ السّماء , و حبّاتِ الرّملِ الّتي تتحوّلُ إلى لؤلؤ ,
و الأشجارِ قبلَ أن تحتضنها الأرضُ فتمنحها بريقَ الأزمنةِ الماسيّ ,
و مياهِ البحرِ الّتي تتنبّاً بالسّفنِ الغارقةِ , إذ يهدأُ موجُها العاصِف !
و أنا مظلّةٌ ورقيّة فاجأَتْها أمطارُ حبِّكَ , فتحولّتْ إلى حِبرٍ يَسيلُ على الوَرَقْ !
* اللّوحة لـِ ايفان ايفازوفسكي