ملامح اللغة الشعرية في نصوص طلال الرشيد
يكتب بفواصل بيضاء، ويرسم ذواتنا بألوان ذائقته المتناغمة، يسكب ضوء إبداعه على صفحة الماء ،فتغتسل منها جروح كلماء، ويبعث بأريج نعناعه وأهازيج إبداعه لصباحات العشق ، فتتناغم معها همسات الليل وعطر الهيل وحمحمة الخيل، ليملئ بإيقاعاته الموسيقية حدائق بابل وحناجر البلابل ومحاجر جادل فتندلق حروفه عذبة شجية على جداول القلب ،أنه الشاعر المرحوم بإذن الله طلال الرشيد ..فسنحاول في هذا الطرح أن نتتبع مسارب ضوءه التي تنبع من سرديات وعيه من حيث اللغة الشعرية في نصوصه ومن ثم نحتفل بالصور الشعرية الزاخرة في حضور قادم وحبور دائم بإذن الله .
فاللغة الشعرية عند طلال الرشيد تحتوي على طاقة إيحائية عالية متشظية بجميع سياقاتها ومستوياتها ودلالاتها وتراكيبها ، وبما يمتلكه من أدوات فنية متجددة وقدرة إبداعية مدهشة لبناء المنجز الشعري بوعي تام ، فنجدها لغة بكر مبتكرة مبتعدا عن التقريريةوالمباشرة عبر مظاهر الانحراف والانزياح اللغوي داخل النص ، معطيا للمعنى أبعاداً أخرى وتأويلات متعددة ، وبمفردات متناغمة حرفا وصوتا وإيقاعا،يقول جان كوهن في كتابة بنية اللغة الشعرية عن الشاعر ( انه خالق كلمات وليس خالق افكار وترجع عبقريته كلها إلى الإبداع اللغوي ) . وهذا ما نجده في اللغة الشعرية عند طلال الرشيد من خلال إيجاده علاقة جديدة بالسياق مغاير عن لغة الشعراء الآخرين ، فالبناء الأسلوبي في نصوصه يشمل عناصر العبارة الشعرية من حيث الجمال اللغوي ،الموسيقي، البديعي، المعنوي. والذي بدوره يؤسس لنا نص متكاملاً ومتنامياً بوحدة عضوية ووحدة موضوعية مكونا بنية شعرية تركيبية خاصة به ومؤطرا حضورا مشرقا مورقا بالحب والسمو والبياض . فالمفردة الشعرية عند طلال يعتمد في توظيفها في سياقات شعرية جديدة بلغة العصر من حيث التطور وما تحتويه من خصائص سيميائية والاشتقاقات في الأفعال واستخدامه الواعي للرموز والتجريد مما تضفي الحيوية والحركة للنص ، ويبعدها عن المألوف الذي لا يسمن ذائقة المتلقي ولا يغني من جوعه الأدبي ، يقول من نص يابعد حيي ..
( بعيونها سلسبيل رماح
والموت بالسود متهيي )
فنجد في " سلسبيل رماح " عذوبة النظرة ونفاذها في القلب في آن واحد وهذه بمجملة تركيب في غاية الدقة والعمق،بحيث تحمل تلك المفردات دلالتها وإيحاءاتها بطاقة شعرية عالية في تناغم وانسجام مع السياق الذي أراد التعبير عنه عبر تكثيف لغوي متجانس. ويقول في نص علمتني :
علمتني وشلون أحب علمني كيف أنسى ..
يا بحر ضايع فيك الشط والمرسى. .
ومن السمات التي تتميز بها تجربة طلال الرشيد شفافية اللغة وسلاستها حتى وأن كانت مباشرة أحيانا إلا أنها تعبر عن المشهد الشعري المكثف بكل أبعاده وتقنياته متخليا عن الخطاب الصرف الصامت الذي يجمد المشاعر ويقتل الأحاسيس يقول من نص " علمتني " :
ياطاغي النظرة .. خطا
تجزى بهالبخل العطا
وانا اللي اهديتك أمن..
عين وجفن
هذي فراش وذا غطا
كما أن اللغة لديه شفافة ووسطية بين الفصحى والعامية تسكنها الدقة وتنساب منها الرقة لا تكلف ولا عسف أو ابتذال يفقدها حيوتها وحرارتها ، تؤدي المعنى المراد إيصاله والغرض الذي كتبت من أجله يتكلم عن الذات الإنسانية ويعبر عن لواعجها وخلجات قلوبها عن الحب والعطاء عن الصدق والوفاء من خلال الدلالة الشعرية للخطاب والحالة الشعورية للذات ما نحاً بلغته الشعرية فضاءات جديدة للنص منخلال توليد أنساق دلالية تضفي على نسيج النص حياكة مذهلة عبر اللغة المحكية وما تحمله من عناصر رمزية وواقعية( يأتي من صلب الثقافة ولا يقطع صلته بها، فكلما ازداد حجم الثقافة كبرتاللذّة وتنوّعت) حسب رولان بارت.فنجده يضفي على لغته الحركة والتموج بحيث يجعل المتلقي في بحث دؤوب عن اتجهات تلك الإيماءات ومدى إحداث الإيقاع الداخلي للكلمة على أوتار ذائقته يقول في نص " عيون الصغار " :
يا صوتها الرايح وجاي
مابين أشواقي وشقاي
تشبه لك الونّه و ناي
و مـا سـمـعـتــك
فقد أوصل صوته الخاص ولغته المتفردة عبر قاموسه المعجمي الذي يحمل تجربته العبقة المفعمة بالصورة الشعرية و لجمال اللغوي والإيقاع الموسيقي مسقطا اللفظ على المعنى ومرتقيا بالمعنى لآفاق الفظ وبرؤية شعرية جديدة ، مبتعدا كل البعد في بنائه اللغوي عن غريب الفظ أو متعسفا لأنها البيت بالقافية التي بدء بها دونما إضافة معنى جديد أو يورد المفردة لمجرد جرسها الموسيقي وإيقاعها الداخلي والذي بدوره ينعكس عل لغة النص الذي كتبه من حيث ترهل اللغة وضعف المعنى وخبت وهج الصورة الشعرية، كما أنه حذر من الغموض والإبهام والتجريد المحض الذي يؤدي لانفصال التواصل مع المتلقي هذا ما نلمسه في هذا البيت المدهش المنعش من نص لا تلمس الجرح ومن نص " ذهايب الذود " يقول :
ذهايب الذود راحت مع ذواهيب قـوم
لا صار لك الف قوماني فلك الف بيـت
تتداخل حركة اللغة الشعرية مع البعد الفلسفي لتكون في النهاية رؤية فنية تتناغم مع الرؤيا التي رسمها بروعة إبداعه ودقة هندسته ويقول من نص " ياطاهرة "
هذي الحقيقه ما يجي في الكون اطهر من يديك
وانا الذي انقظ وضوء الغيم والماء والهبوب
كما أنه أعطى مضمونا مكثفاً للغة فلا نجد جملة شعرية خالية من الدلالة والمعنى الإيحائي فنجده في حضوره النصي متماهيا مع اللغة، ومحلقا في آفاقها الرحبة يقول من نص" ذكرى الفراق"
الـيوم انا ضيف جرحي جيت باطمنه
انـي جمعت الدموع وجبت امانة امين "
كما أن اللغة عند طلال الرشيد تحظى بتوظيف خاص يعبر عن رؤيته التي يحس بها ويعايشها ، متجاوز بها للواقع ومتخطي حدوده لحمل الرؤيا التي نستشف منها ملامح تجربته وسماتها البنائية بتكثيفها واستعاراتها المتمردة فنجد التكثيف اللفظي في بناءاته عبر إيقاع معرفي أبستمولوجي وبلغة رهيفة هادئة قريبة من روح العصر تنم عن وعيه بخصوصية التجربة الشعرية وتناغمها مع الذا ت والمحيط الحياتي والمعيشي يقول من نص " آخر حب "
تعال نعطش وتشربني وانا اشربك
تعال قبل الوعداجلس معي نحتريك
فلنتجاوز " تشربني وانا اشربك" لنتوقف عند " اجلس معي نحتريك " فا جلوسهما معا في نفس الوقت أمرا مألوف ولكن أجلس معي " لنحتريك " هنا انحراف لغوي جميل ومتعمد لأن الدلالة التي يريد أن يوصلها عميقه وذاتيه ، كما أن الانزياح الذي أحدثه يدفع المتلقي للبحث عن التأويل وأعمال الفكر والتراسل بين الحواس لربط الدوال بعضها ببعض للتوصل للمعنى المراد ، ولإشباع نهم الذائقة .
يسعى طلال الرشيد رحمه الله في نصوصه إلى اجتراح لغة شعرية جديدة تتدفق في شرايين تجربته الشعرية لتأخذ نفس اللون والنكهة التي أراد أن يشكلها من ملامحه الخاصة حيث أن الشعر لديه لغة المفارقة يقول في نص " ذكرتك "
ذكرتك يوم شفت الشمس غابت والقمر ينساب من شرفه
ذكرتك والنجوم تلون لحاف السماء وتعاتب الجافي
فنجده في انتهاك دائم وانحراف مستمر لقواعد اللغة االعادية لإحراز لغة شعرية متجددة تفتح نوافذ الرؤية وأفق الرؤيا أمام المتلقي كما في قوله " تجرح الظلما عيون ناعسات "
( تجرح الظلما عيون ناعسات
سلهمت و اغضت تغطرس في بهاها)
فنجد المفارقة في جملة " تجرح الظلما "حيث اكسبها انحراف في اللغة الشعرية موسعا الدلالة وجاعلا المفردة بالاستعارة منفتحة علي التأويل والتفسير .
ويقول في نص : " يا بعد حيي "
اليــــــوم يابنت من زيــــي ...الشمس وردة على ضيي
"الشمس وردة على ضيي " هذا هو الشعرالذي يستمد قوته من اللغة وهو استكشاف دائم لعالم الكلمة واستكشاف دائم لعالم الوجود عن طريق الكلمة كما قال ذلك الدكتور عز الدين إسماعيل رحمه الله .ومن نص " العواذل "
كل النجوم اللي امطرت من سحابه ..... حبيبتي دمعك جرح قلب واتراب
ولنا أن نتأمل لفظة " جرح " التي تعطى دلالتها في لغة الشاعر المشحونة بالشجن والحن .وهذا ما ذهب إليه " موكاروفسكي " في قوله أن بناء لغة الشعر لا تتم إلا بالتحطيم المستمر والدائم لقانون اللغة المعيارية وذلك من أجل بناء لغة فنية جديدة لها قواعد خاصة وقوانين متميزة .تحفل التجربة الشعرية عند طلال الرشيد بغناها المعجمي والأسلوبي وقدرته على إحداث الانسجام المطلوب بين اللغة من جهة والفضاالداخلي لذاته من جهة أخرى ، كذلك قوة صلتها مع الذاكرة والمتلقي في آن واحد كما استطاع تحويل جمل سهلة التركيب من التقريرية المباشرة إلى شظايا منشطرة بدلالاتها وأساليبها المبتكرة سامحا للمتلقي المشاركة في دينامكية النص ورمزياته وإيحاءاته يقول في نص " لحن بدو "
بنت يمـي كـان رمشـك تمنـا
اشق لك ثوب السماء جـود وعنـاد
واشدلـك زمـلً جـفـن المعـنـا
واسري بوجهك لاغشى وجهي سهاد
فتأمل قارئ العزيز " اشق لك ثوب السماء " و قوله " واشدلـك زمـلً" وكذلك لفظة " لا غشى " ومدى الأفق الواسع الذي فتحه لنا بلغته ورؤيته والتداعيات الممتعة التي أحدثتها في توظيف المفردة الشعبية الدارجة داخل النسق بروح شعرية معاصرة وكيف سمح للدلالة بالتدفق من كف لغته الشعرية الغنية .ونلاحظ سمة التكرارفي نصوص طلال الرشيد سواء كان التكرار لحرف أو لبنية أو تكرار عباره إما في استهلال النص أو في وسطه مما يضفي على النص رؤية فنية وجمالية خلابة وعاكس حالة شعورية معينه إما لإبراز قيمتها أو لتأكيد حضورها في ذهن المتلقي حيث أن (الادب فخّ يوصل جسد الكاتب بجسد القارئ، حسب رولان بارت). مبتعدا عن التكرار الممل الذي يشتت الذهن ويصيب بالملل ونلاحظ ذلك باللازمة التكرارية " سير علي " من نص " علمتني "
سير علي .. بس امسح دموعي وروح
سير علي .. جب لي معك قلب وروح
سير علي .. اذا تذكرت الجروح
ومن نص ذكرتك يقول :
يبيك اللي عيونه ماقوت تحمل قليل من بعض عطفه
يبيك اللى مشالك او مشابك او مشى في سكتك حافي
من نص : مكانك مكانك
وإن خانتك دنياك .. أو خنت دنياك
إرجع و تلقابي .. مكانك.. مكانك
يقدم ا الشاعر طلال الرشيد رحمه الله سرداً رشيقاً مكتنز بالشعر ومبللا بالبياض فنجد صيغ الخطاب تتنوع من نص إلى آخر أما بالحوار أو المنولوج الذاتي واندماج ( الأنا( الساردة مع الآخر، والضمائر بأنوعها مضفيا إليها رؤيته الخاصة وفلسفته الواعية في أنساق جميلة مبتكره مثل قوله :
قلت زاهي بوجنتك زهر النبات
قالت ان الرمش يجرح لي صفاها
هذه لمحة موجزة عن ديمومة اللغة الشعرية في نصوص الساكن في قلوبنا طلال الرشيد رحمه الله ، محاولة مني لمصافحة مسارب الضوء ومحاريب الجمال ورضاب الذائقة في نصوصه .
فواصل 15مارس 2008العدد 219