.
عن مقال للأستاذ عبد الجبار العتابي ..
يقول الفنان يوسف العاني :
كانت زيارات المرحوم القبانجي لبلدان كثيرة أكسبته حسن المعاشرة وأعطته موقعاً متميزاً في العلاقات الإجتماعية والفنية، فهو محترم أينما حل وهو بحق سفير بلا سفارة كما أعبر أنا دائماً عن فنانينا الكبار، فحين التقى بأم كلثوم في القاهرة وخرج مع أحمد رامي يتمشيان على كوبري النيل سأل الأستاذ القبانجي أحمد رامي : ام كلثوم هذه الفنانة الرائعة هل تحب؟ ، نظر أحمد رامي اليه نظرة شاعر لفنان وقال: كيف يبقى خالياً من له عين وقلب؟ ، صاح القبانجي : «الله.. أكمل يا أحمد»، رد عليه أحمد رامي : لا أكمل الا اذا أعطيتني وعداً ان تغنيها ، قال القبانجي: أغنيها ، وراح أحمد رامي يكتب ثم يقرأ للقبانجي هذه الأبيات:
غلب الشوق غلب
والهوى شيء عجب
لائمي في حبها
أي قلب ما أحب
أي طير لم ينح
من حنين وطرب
أي غصن لم يمل
إذ نسيم الفجر هب
كيف يبقى خالياً
من له عين وقلب
وعلى كوبري النيل غنى القبانجي هذه الأبيات وظل يعيدها ويتجلى بها حتى اجتمع الناس وراحوا يصفقون له ويطلبون الإعادة ، فكان حفلاً غنائياً بلا تذاكر ، الشعر لاحمد رامي والصوت واللحن للقبانجي والمستمعون ناس اجتمعوا بلا موعد ليطربوا ويستمتعوا بفن عال لا حدود له".
_ في مؤتمر الموسيقى الثاني الذي عقد في بغداد عام 1964م، أقر مقام اللامي على انه مقام كامل من مقامات الموسيقى الشرقيه ، رغم أنه سبق وان غناه في مؤتمر الموسيقى الأول في القاهرة سنه 1932م ولكنه لم يقر كمقام.
_ لم يُلاحظ بروز مدرسة أخرى بعد مدرسة محمد القبانجي ، وكان كل من جاء بعده أما مقلدا لأسلوبه أو مقلدا لأحد الاساليب القديمة ، ويمكن حصر ما حققه القبانجي في مجالين:1_ توسيع حجم التخت البغدادي والجالغي البغدادي وجعله فرقة موسيقية تحوي آلات متنوعة، وابرز ما اضافه هو العود والقانون والناي والجلو والكمان، 2_ نقل طقوس أداء المقام من المقاهي إلى قاعات كبيرة يؤمها رواد محبي المقام والموسيقى وذلك منذ نهاية الأربعينيات،
كان للقبانجي مواقف كثيرة تؤكد أصالته ووطنيته ، فقد تعرض كثيرا لمضايقات السلطة في تلك العهود بعد ان كان يضمن أغانيه بعض الأنتقادات، في لقاء مع القبانجي نشرته مجلة (كل شيء) عام 1964م جاء فيه على لسانه:
" .. ما إن حل عام 1929م حتى تحولت العاطفة إلى سياسة عندما أنشدت (عبيد للأجانب ... ) وكان المعنى والهدف واضحا وساقتني وزارة علي جودت الايوبي التي أعقبت انقلاب الفريق بكر صدقي الى المحكمة".
_ مع أستقدام الأجانب للعمل في وظائف عديدة في العراق ، وأثناء السيطرة والهيمنه البريطانية على العراق ، أنشد (عبيد للأجانب ... ) للشاعر الكبير معروف الرصافي ، أقتبسها وأضاف إليها كلمات من الشعر الشعبي الزهيري ، وقد أعاد صياغتها الأستاذ والشاعر عبد الكريم العلاف ، وهي في الأصل شعر للشاعر معروف الرصافي في قصيدته المشهورة ..(علمٌ ودستور أمةٌ .. كل عن المعنى الصحيح محرف ..) وعندما سمع الرصافي بتأليف عبد الكريم العلاف وإبدال كلمة ( ...) بعبيد قال له : حسناً فعلت .
هنا نقل الأستاذ محمد القبانجي بإدائه العالي المصحوب بالتوجع والمرارة أحاسيس ومشاعر الناس من وجود الأجنبي ومزاحمته لأبناء الوطن:
بلــد ٌ يزاحمني الغريب بوسطه
والأهلُ أهلي والبلاد بلادي
سعيد اللي گضه عمره بلا داي
وعايش دون خلَك الله يا دليلي
الغريب أصبح يزاحمني إبلادي
والأهل أهلي وبلادي إتعز عليّ
عبيد ٌ للأجانب هُم ولكن على
أبناء جِلدتهم أسود ياويلي
النوايب مرتهب منها ولكن
قومي لاذرى بحيهم ويلاه
عبيد ٌ للأجانب هُم ولكن على
أخوتهم أسود بكل قضيه ويلاه
قال القبانجي :" سمعت في إذاعتنا مؤخرً من يشير أن قصيدة ( أضنيتني بالهجر ما أظلمك فارحم عسى الرحمن ان يرحمك للأخطل الصغير ) يقول المذيع فيها أن فريد الأطرش أول من غناها في حين انني قدمتها ببغداد قبل الأطرش بعشرين عاما ".
قال الشيخ جلال الحنفي :
" عندما غنى القبانجي مقام (الرست) وحاكى به الأسلوب المصري ظن ان المحاكاة نوع من المهارة والبراعة وبالغ قليلاً في التغنج والتحرك أثناء الغناء، وهو أول من غنى المقام واقفاً خاصة أثناء تساجيله الاسطوانية، لكنه لم يعاود ذلك بعدها، وأنا لا أعترض على من يغني الأغاني المصرية، المطربون أحرار لكنني أخشى ان نفقد النكهة البغدادية العراقية الأصيلة، ... تفوق القبانجي بصوته الجميل وذكائه في اختيار النصوص الشعرية، أما الآخرون فقد وقفوا على نصوص معاده وظلوا محدودي الحفظ .. "
_ عاصر كبار شعراء العراق والأمة واغتنى من شاعريتهم وإبداعهم وغنى أشعارهم وشاركهم في همومهم الوطنية، وظل صوته يصدح للوطن ووحدة العرب ولفلسطين ، وفي عام 1983 تحدى محنة العمر وحمل سني حياته التي آربت على الثمانين، وحضر الى مبنى الإذاعة والتلفزيون ليغني للعراق فكانت آخر إسهاماته الوطنية وآخر نشاط سجله خارج جدران بيته ، استقر في بيته يستقبل الأصدقاء ويقرأ دواوين الشعر ويسمع أو يشاهد برامج المقام العراقي.
مع خَالِص ..
الشّكر والإمتنان