في عالمٍ تُعاد فيه كتابة الحقائق وفقًا لمصالح أصحاب النفوذ، ويتحول الرأي إلى سلاح يُشهر في وجه من يجرؤ على التفكير بصوتٍ عالٍ، هناك مقالات تُكتب لتُناقش، وأخرى تُكتب لتُهاجم، لكن هذا المقال تحديدًا… لا يحتمل الردود.
ليس لأنه يطرح أفكارًا غير قابلة للنقاش، بل لأنه يكشف عن مسلّماتٍ لطالما تجاهلها الجميع، إما خشيةً من المواجهة أو هروبًا من الاعتراف بها. إنه ليس استعراضًا للأحداث، ولا محاولةً لصياغة مواقف دبلوماسية، بل هو جرس إنذار يُقرع في فضاءٍ يعجّ بالصمت المخيف.
حين تصبح الحقيقة عبئًا
في السياسة، كما في الحياة، ليس الخطر الحقيقي في الكذب، بل في لحظة يصبح فيها قول الحقيقة عملاً غير ضروري، وغير مُجدٍ، بل وربما مضرًا. في تلك اللحظة، لا يعود السؤال: "ماذا حدث؟"، بل "من يملك حق السرد؟"، لأن من يتحكم في الرواية يحدد الحقيقة، ولو كانت منقوصة أو مشوّهة.
نحن اليوم أمام واقع لا يعترف بالحقائق المطلقة، بل بالأصوات الأعلى. النقاش لم يعد بحثًا عن الصواب، بل صراعًا على من يملك المنصة الأكبر، ومن يُمسك بخيوط اللعبة الإعلامية، ومن يُعيد صياغة التاريخ وفق أجندته الخاصة.
الجدل العقيم: استراتيجية الصراع الجديدة
لعل أكثر الأسلحة فتكًا في زمننا هذا ليس القمع المباشر، بل إغراق الحقيقة في بحرٍ من الجدالات العقيمة، حيث لا تُرفض الفكرة، بل يتم استهلاكها حتى تفقد قيمتها، فلا تعود قضيةً ذات أولوية، بل مجرد "وجهة نظر" تُطرح وسط زخمٍ من الأصوات المتضاربة.
حين يطالب البعض بالإصلاح، يأتي الرد: "ما هو تعريف الإصلاح؟"، وحين يُكشف عن فساد، يكون الجواب: "أليس الجميع فاسدًا؟"، وحين يُطرح حلٌّ منطقي، يتحول النقاش إلى سؤال عن التفاصيل الهامشية، حتى تتلاشى الفكرة الأصلية في متاهةٍ من التشكيك والالتفاف اللفظي.
لماذا لا يحتمل هذا المقال الردود؟
لأن الردود، في كثير من الأحيان، ليست أكثر من هروبٍ من الاعتراف، أو محاولةٍ لتمييع الوضوح بتعقيداتٍ مصطنعة. لأن هناك لحظات لا يكون فيها المطلوب هو الحوار، بل الوقوف أمام المرآة، والاعتراف بحجم التشوهات التي أصابت المشهد.
هذا المقال لا يُطلب أن يُوافق عليه أو يُرفض، لا يحتاج إلى تحليل أو تفنيد، لأنه ببساطة ليس رأيًا يُناقش… بل حقيقةً يعرفها الجميع، لكن قليلون فقط من يملكون الجرأة للاعتراف بها.
"السياسة فنُّ أن تقول للناس ما يريدون سماعه، ثم تفعل ما يجب فعله."