لعله من نقائض الوصف والشروح صبغ وسائل التواصل الإجتماعي الحديثة بالعزلة,ولعله من صميم المفارقات وصم قيمة التواصل داخل إطار المجتمع بالفردية والنزوع إلي بحثنا عن خلواتنا بأنفسنا في واقع لا نملك أمامه سوى أن نسلّم بأن التواصل لم يعد سوى اللمس علي خيار الإرسال لطرف آخر لا تعني لنا مسافته المكانية شيئًا,لكنه يقبع في مكان ما ولا يأبه بمن يشاركونه المكان.
صديقي الذي لم ألتقه منذ وقت ليس بالقصير كان يحادثني بلسان يصف نصف ما يقول ويخلط النصف الآخر بضحكات وإيماءات وردود متداخلة تستجدي رضاء تلك اللحظة التي نلتقي فيها في محاولة جادة منه لمسك خطام اللحظة من جهة, ومسك الخطام الآخر والذي يمثل لقاء شخص ما أو مجموعة أشخاص في فضاء خاص من جهة ثانية, ولعله كان قد سار في ركب من اصطلحوا للضحكات والمشاعر الإنسانية المتباينة على حروف ورسومات ورموز تفك طلاسمها تكرارها وتداولها على شاكلة الضغط المتلاحق على حرف الهاء لتعي أن من تخاطب أرسل لك الضحكات مكتوبة, وأسمعها الذين يجاورنه بأجسادهم, فغيري في الانتظار في فضاء عريض من فضاءات الشبكة المتداخلة, ولا تمضي تلك اللحظات سوى بردودٍ عاجلة على شاشة هاتفه اللوحي النقال ودردشاته المتلاحقة, وعلى محادثتنا التي تتحول في الكثير من الأوقات إلي صمت مريب, أنا وهؤلاء اقتسمنا هذا الصديق وتلك هجمة عصرية شرسة لا يتحمل صديقي وزرها, ولكنه بأية حال يتحمّل وزر توقيت استخدامها.
تلك حالة من حالات إجتماعية متعددة لا يملك شمول وصفها هذا القلم, ولكن المؤكد أنه ثمّة من هم على شاكلة الأصدقاء والأقارب والأهل والمعارف وكل ضروب العلائق الإنسانية قد اكتوت بمقدار ما بنيران التجاهل العصري (تجاهل الطرف الآخر بسبب انشغال شخص ما بهاتفه اللوحي في الزمان والمكان غير المناسبين).
(نت لوك, تانجو, اواتس اب, بادو, فيس بك, تويتر, يوتيوب.....) وغيرها الكثير مما جادث به قرائح الذين أرادوا لنا السير في فضاء سجونهم الفسيحة , وللأسف أننا بسبب هذه الإصدارات المتلاحقة لم نجد حتى الفرصة لتعريبها أو مقاربتها مع لغة الضاد فأخذناها على محمل الجد والعجمة بحثا عن ما تحمل لفائدة التواصل والإنسانية, فخرجنا منها بالإيماءات والضحكات والتنهيدات.
تلك الحالة المعيارية لطريقة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بالطبع لا تنطبق على الكل, فنصف الكوب الممتلئ يعّبر بالضرورة عن قطاعات عريضة تستخدم هذا الفضاء المفتوح كما يجب ولكن الجميع تأثر بمقدار.
نعم ولّى ذلك التواصل الذي تُضرب له أكباد الإبل, وتُشد له الرحال, ولكن الذي ترفدنا به تكنلوجيا هذه الأزمنة سار بنا القهقرى, وجعل من قيمة التواصل عندنا ذاك الذي لم يتجاوز الكلمات المختصرة والقليلة, وإن طالت بنا لحظة القراءة تركناها لقصاصاتنا السريعة.
ذاك الذي وصفناه بالمجنون قبل بضع سنين من كان يمسك بهاتفه الخلوي ويتحدث لطرف آخر, ربما كنا نظلمه كثيرا فربما كان يواصل قريب غائب, أو يعزي في فقد ,أو يجامل في فرح, فماذا نقول فيمن يمسك بكلتا يديه على هاتفه اللوحي وهو يضحك ويبكي ويكتب ويقرأ ويشاهد في اختصار مخل لبلوغ تمام المعاني والمرامي والأهداف, وكأنه لم يعد لديه المتسع لقراءة كتاب, أو زيارة قريب, أو حسن الاستماع لمن يجالس.
الحاجة للتواصل حاجة مستمرة ومتجددة والابتكار فيما يجعلها سهلة ومريحة أمر ايجابي ومفيد للإنسانية والمجتمع, إلاّ أن التواصل الذي بنيناه على افتراض الوسائل وحقيقة الأشخاص يستحسن أن لا يلهينا عن حقيقة التواصل مع من هم بحاجة لاحساسنا بدلا عن أجسادنا, ومن يمثل لهم وجودنا معهم قيمة أكبر من التجاهل وإن تلاحقت منتجات شركات الهواتف اللوحية.