شعر ما قبل الإسلام، وليس الشعرالجاهلي. – 1 -
الجاهلية وصف ملازم للعرب ما قبل الإسلام، نقول العصر الجاهلي وشعراء الجاهلية وحكماء العرب في الجاهلية، والشعرالجاهلي، وهذه التسمية وإن كانت صحيحة في جانب إلا أن فيها من الظلم الكبير للعرب في ذلك العصر، فهي تجـرّد كل العرب في ذلك العصر عن كل فضيلة وخُلق وتصف المجتمع في ذلك العصر بأنه مجموعة من السلبيات والفوضى. وحتى ننصف العرب في ذلك العصر علينا أن نعـِّرف معنى كلمة الجاهلية.
كلمة الجاهلية ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، وإنما مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق والحمِّية والطيش، ومما يؤكد ذلك المعنى قوله تعالى (قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين)" البقرة 67 " وقوله تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)" الأعراف 199"
بهذا المعنى يكون وصف العرب بالجاهلية في مكانه. فقد كان العرب وثنيين، إلا قلة من بقايا أهل الكتاب، وكانت أخلاقهم قوامها الطيش والغضب والأخذ بالثأر واقتراف ما حرمه الله عز وجل من موبقات، إلا أنه من الإنصاف لا يصح هذا التعميم على كل المجتمع في ذلك العصر، حيث أن في كل مجتمع وفي كل عصر إيجابيات وسلبيات، فهناك في ذلك العصر من الحكماء والعقلاء والمصلحين ممن شهدت لهم أشعارهم وخطبهم ووصاياهم ومآثرهم بتمسكهم بالفضائل التي جاء ونادى بها الإسلام فيما بعد.
وأما الجهل الذي هو نقيض العلم، فقد كان العرب في عصر ما قبل الإسلام بعيدين عن هذا الوصف. ولقد كان أحمد حسن الزيات محقاً في قوله: ..." ولو ساغ لنا أن نحكم على العرب بمقتضى لغتهم وآدابهم لوجدنا لهم نفوساً كبيرة وأذهاناً بصيرة وحنكة خبيرة ومعارف واسعة، كوّنوا أكثرها من نتائج قرائحهم وثمار تجاربهم فإن لغتهم وهي صورة اجتماعهم لم تدع معنى من المعاني التي تتصل بالروح والفكر والجسم والجماعة والأرض والسماء وما بينهما إلا استوعبت أسماءه و رتبت أجزاءه ... ولعمري ما يكون التمدن اللغوي إلا بعد تمدن اجتماعي راق في حقيقته.
و يقول جرجي زيدان في بحثه عن العرب في ذلك العصر " لم يتصد أحد للبحث في آداب اللغة العربية قبل زمن التاريخ لقلة المواد المساعدة على ذلك ولاعتقاد أن العرب ـ حتى في الجاهلية الثانية ـ كانوا غارقين في الفوضى والجهالة، ولا عمل لهم إلا الغزو والنهب والحرب في بادية الحجاز والشام وفي نجد وفي غيرها من بلاد العرب، على أننا إذا نظرنا إلى لغتهم كما كانت في عصرالجاهلية نستدل على أن هذه الأمة كانت من أعرق الأمم في المدنية، لأنها من أرقى لغات العالم في أساليبها ومعانيها وتراكيبها .... واللغة مرآة عقول أصحابها ومستودع آدابهم ".
إن العرب في ذلك العصر كغيرهم من الأمم كانت لهم جوانب إيجابية وجوانب سلبية، فالجوانب الإيجابية كثيرة منها سعة الخيال وسرعة الخاطرة ودقة الإحساس كما أكسبتهم البيئة براعة في الأنساب والأخبار والأشعار. وكما مهروا في الفراسة والقيافة ووصف الأرض لكشف العي فيهم وطلب الهارب منهم. أما في الجانب الخلقي والتربوي فقد كان للعرب الحظ الأوفر، فأكثم بن صيفي كان من خيرة حكماء العرب وقضاتها وكان مثالاً في الرصافة والتعقل والحكمة ومما يروى عنه أنه سار إلى كسرى أنو شروان في وفد من العرب لإظهار فضل العرب وتفوقهم وكان الخطيب المفوّه فقال له كسرى: "لو لم يكن للعرب غيرك لكفى" فقال أكثم كلمته المشهورة: "رب قول أنفذ من صول".
والمتتبع لخطب أكثم بن صيفي يرى أنها تتصل بالمواعظ وتكثر فيها الحكم التي تصدر عن نفس راقية متأملة واعية لأحوال المجتمع كما تعالج شخصية الإنسان في ذلك المجتمع،
فمن وصاياه لرهطه قوله:
"يا بني تميم لا يفوتكم وعظي وإن فاتكم الدهر بنفسي إن بين حيزومي وصدري لكلاماً لا أجد له مواقع إلا أسماعكم ولا مقاراً إلا قلوبكم فتلّقوه بأسماع مصغية وقلوب واعية تحمدوا مغبته. الهوى يقظان والعقل راقد، والشهوات مطلقة والحزم معقول، والنفس مهملة والرويِّة مقيدة ومن جهة التواني ترك الرويِّة يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشداً والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل ومن سمع سُمِع ومصارع الرجال تحت بروق الطمع ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام وعلى الاعتبار طريق الرشاد ومن سلك الجدد أمن العثار ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ويشغل فكره ويورث غيظه ولا تجاوز مضرته نفسه.
يا بني تميم الصبر على جرع الحلم أعذب من جني ثمر الندامة ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان والكلمة مرهونة مالم تنجم من الفم فإذا نجمت مزجت، فهي أسد مجـَّرب أو نار تلهب، ورأي الناصح اللبيب دليل، ونفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب ."
يتبع - 2 -