يعتبر النص الشعري مصدرا رئيسا للتعبير عن لواعج النفس وهيام الروح وشدة التوترات النفسية،
وناقلا مهما للتجربة الإنسانية والخبرات الحياتية، وموثقاً لحراك اجتماعي ثقافي وسياسي لفترات
تاريخية مر بها الإنسان. فالنص الشعري الذي لا تاريخ له هو ذلك النص الذي يتخطى حدود الزمان
والمكان ويستقر بالأذهان أمداً طويلا محتفظاً بحرارته الوجدانية وصدقه الفني وتجربة شاعره
الأصيلة، انه نص يسكنه الضوء وتتبعه الذائقة وتردده الألسن، فما هي الأسباب يا ترى التي جعلته
ينفرد عن غيره من النصوص ويفلت من قيد الزمان ويتعدى حدود المكان ليصل إلينا بكل نشوة
واطمئنان. فهناك عناصر مهمة ومقومات أساسية يجب أن تتوافر بالنص كي يحافظ على جدته ويستحق الخلود
بالذاكرة وتردده الخاصة والعامة، وأهم تلك العناصر الفكرة والأسلوب والوزن وموسيقاه والقافية
والمعاني والألفاظ والصياغة والتشبيهات والاستعارات، فتمتزج في بناء عضوي ووحدة موضعية
تتضح من خلالها تجربة الشاعر الحسية والشعورية وتتضح مدركاته العقلية ويستقرئ ما وراء العالم.
وقد ذكر الجرجاني في كتابه الوساطة مقومات النص الشعري ومنها: شرف المعنى وصحته، إصابة
الوصف، المقاربة في التشبيه، غزارة البديهة، كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة. واشترط في
البناء العام للقصيدة شروطاً كذلك هي: المقاربة في التشبيه ومناسبة المستعار منه للمستعار له، والتحام
أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، أما شرف المعنى وصحته هو ما يتصل عند
الجرجاني بمناسبته لمقتضى الحال، واتصافه بالصحة المنطقية، أما على صعيد المجاز فيتطلب فيه
قرينة تصل بين الواقع المتخيل والحقيقة الموضوعية متحدثا عن فهمه للمعنى في خلال التطبيق،
محتكماً إلى نظر عقلي في بعض المؤاخذات على الشعراء. أما على صعيد التركيب، فالتركيب المعقد
الذي لا يؤدي تعقيده وظيفة دلالية سوى التعقيد الذي يشكل معه المعنى فهو دليل ضعف.
وقد قال الجرجاني: إن العرب تسلم قصب السبق للشاعر الذي وصف فأصاب، وشبّه فقارب وبده
فأغزر، يتصل هذا المقوم عند الجرجاني باتجاهين: الأول: الإصابة في وصف الموصوف الخارجي
عند محاكاته أو محاولة تمثيله لفظيا، والثاني: الإصابة في وصف ما تجيش به أحاسيس المرء
ومشاعره، وقال بعضهم: (إن أبلغ الوصف ما قلب السمع بصرا) فالنص الذي لا تاريخ له هو ذلك
النص الذي يحمل صاحبه فكراً نيراً وذكاء حاداً ورؤية أنيقة ورؤيا عميقة، وقد قال أحد النقاد (إن من
غير الممكن أن ينتج رجال لهم أفكار وضيعة مستعبدة شيئاً يستحق الخلود) كما حدد لونجينوس في
مقالته (في السمو) العناصر التي إذا ما توافر عليها الشعر، اكتسب صفة الأصالة الفنية وهذه العناص
ر هي: قوة صياغة المفهومات العظيمة، جزالة الأسلوب، صياغة الصور والمجازات، العاطفة المهمة
المتقدة، التأليف الرفيع الجليل. فكلما ابتعد الشاعر عن التقريرية والمباشرة والتعقيد والغموض العقيم
واقترب من العاطفة المتقدة والفكرة الجديدة والصورة الشعرية المبتكرة الفريدة في رسمها المعبرة عن
الحالة النفسية في وصف دقيق واللفظ الرقيق، ومناسبة المعنى لمقتضى الحال والتعبير عما يختلج في
ذاته ويمور في أحاسيسه والمشاعر الجياشة بأسلوب مدهش وتعبير فني منعش، أقبل عليه المتلقي
وحرك مشاعره وهز وجدانه واشتعلت جذوة أحاسيسه في نص يستحق أن يخلده التاريخ وتحفظه
الذاكرة الذي قال عنه ابن رشيق في كتاب العمدة (إنما الشعر ما أطرب وهز النفوس وحرك الطباع).
كلما تضمن النص الفكرة الفريدة الجديدة، اللغة الجميلة، المعنى العميق، والصورة الشعرية المبتكرة، الخيال الخصب،
الأسلوب السلس في بناء فني متكامل لا ينفرد أحد هذه العناصر عن العناصر الأخرى وترابطت عناصر النص، كان تأثيره
أكبر وأوقع في النفس، والعكس صحيح كلما ضعفت هذه العناصر كان سببا مباشرا في تردي النص وضعفه. ومعرض
لضياعه وانصراف الناس عن شعره. فمتى يكون الشاعر متميزا ويكون شعره محفوظا في الذاكرة؟ فلو تتبعنا مسيرة
الشعر الشعبي للاحظنا أن في كل جيل يبرز عشرة شعراء تقريبا فهؤلاء الذين برزوا كان نتاجهم الشعري أرقى وأجود
من غيرهم، فلابد أن هناك أسلوبا ونهجا أتبعوه كي يعبر بهم إلى فضاءات الذائقة ومدارات الإبداع ومدن الإمتاع ويجعلنا
نتداوله ونحفظه!!.. فا الثقافة الواسعة والاطلاع دور مهم في تخطي الدائرة التي يعيشها الشاعر في عصره وتساعده
للوصول للشهرة والتفوق على أقرانه الآخرين. فهي ذلك المخزون الهائل الذي يحسب في ذات الشاعر في توظيف المفردة
والخبرة بمدلولات الألفاظ شكلا ومضموناً. فالثقافة لها دور كبير في التأثير على دقة الحدس ولاستنباط والذي بدوره سيفتح
مجالا أرحب للخيال واقتباس لمعنى وتوظيفه في بيت شعري جميل لم يتطرق إليه أحد فأضاف لشاعريته فصاحة وفعالية
أكثر عمقا، حيث إنه يسعى للكشف والتجديد ويبتكر صورا وأفكارا جديدة، ويصحب هناك تماسك بين التفكير الفني والتفكير
الفلسفي عنده، فالشاعر المتفرد دوما تستطيع أن تعرف مدى نموه الثقافي من معطيات نصه، لأنه يكتب على إيقاع ذاكرة ثقافية بوعي شعري يميزه عن غيره.
والشاعر المبدع يجب أن يتميز بخصائص عقلية معرفية (ثقافية) وخصائص شخصية انفعالية تميزه عن غيره.. فالسطحية
تتبخر مع مرور الزمن، والرمزية المبهمة التي لا تترك منفذا يصل القارئ إلى الهدف المنشود منه تميت النص. مبتعدا عن
إحداث فجوة بين قطبي القصيدة والشاعر، كما أن ذائقة المتلقي لا تبحث عن الشيء العادي المكرر المسبوق.. فطبع الإنسان
يحب التجديد المرتكز على أسس ومبادئ صلبة. بصور وأخيلة جديدة وبفكرة لم يسبقه إليها أحد من الشعراء وبأسلوب
جمالي بديع وبتوظيف المفردة في سياق شعري أخاذ.. فالشاعر المتميز لديه ناقد بداخله استطاع أن يعبر بشاعريته
مستوى القصائد الأخرى أو على الأقل نفس مستوى القصيدة السابقة من حيث القوة والتميز ومن حيث التشويق والامتاع
والإبداع عنده. فهذه الخصائص تكفل لشعره التفوق والنجاح. فالشاعر الذي يريد أن يبقى شعره عصور وأزمنة طويلة
يمنح قصيدته بعدا جديد بحيث يسقط اللفظ عن المنى بفكرة جديدة واعية متزنة.. والشاعر الذي تموت قصيدته قبل موته
هو الذي يتمحور حول نفسه ومن سبقوه في هذا المجال.. فلا يريد أن يحسس نفسه بأنه قادر على ابتكار الجديد وتكوين
أسلوب خاص به. ولم يمنح نصوصه بعدا فلسفيا وحسا داخلي ولم يطلع على نتاج غيره ليستفيد منهم برسم خط يميزه
وينفرد به عنهم. أي أن هناك جمودا ملازما لنصوصه من حيث الأسلوب والنهج الذي ينتهجه في بنائه للقصيدة، كذلك أغلب
الشعراء يكون لديهم حساسية مفرطة من النقد . إن النقد هو أسلوب للإطاحة بالقصيدة وتعريتها أمام العامة واستنقاصاً
لذاته، ناسياً ومتجاهلاً أن النقد هو السبيل للرقي والتقدم، فالشاعر الذي يريد أن يتقدم ويتميز في تجربته لابد أن يطور
نفسه ويُخضع تجربته إلى أدوات النقد البناء ليتبين من خلالها بواطن الخلل في طريقته وأسلوبه، ومتى أفاق هؤلاء من
موقفهم اتجاه النقد أثق أنه سيكون هناك تقدم ملحوظ بطرحهم الشعري. كما لا يفوتني أن أشيد بظاهرة صحية ألاحظها ألا
وهي إخضاع بعض الشعراء قصائدهم وبكل ثقة للنقد، وذلك ينم عن وعي تام وأنهم يريدون أن يختصروا الزمن ليرتقوا
نحو الأفضل في نتاجهم الشعري.. وتخطي ما وقع به الغير من عيوب.