مقالي عن الحداثة في الأدب والشعر ولم أخض فيها كتيار فكري يتسع لما هو أبعد من الشعر والأدب ولا أشنع على أحد وقوفه في أي طرف هو رأي يخصني استثارته آراء متداولة حاليا
على افتراض أن المقصود بالحداثة في الشعر التمرد على التراث وتجاوز السابق بكتابة ما يناسب العصر الحديث , هنا يكون للحداثة معنى ومكان يمكن الانطلاق منه للخلاف أو الاتفاق حول حداثة الشعر وتحديثه لأن رفض الموروث والقديم لعدم مناسبته للحالي والمعاصر من القضايا الإنسانية والشعرية يعد رفضا إبداعيا يدعو لخلق إبداع جديد لكن الرفض المشبع بالإنكار والتنصل من القديم دائما لكونه أجوف وفارغ هو ما يجعل الخلاف بين الحداثة والتقليدية خلاف لانهائي ولا ينتهي لكن حقيقة الخلاف أوسع وأكبر مما يتصور كل طرف لكون هذا الخلاف لايستند على مفهوم واضح للرفض أو القبول البعض يهاجم حداثة هيكل القصيدة حتى لو خلت القصيدة من الرمز والغموض المبالغ فيه وقد يتقبل قصيدة عمودية موغلة في الغموض فاقدة للوحدة الموضوعية لأنه يرى النص العمودي نصا تقليديا مستساغا
والبعض يهاجم الغموض والرمزية أيا كان بناء النص الشعري وقس على ذلك هذا الهجوم من كل طرف على الآخر , ثم أن البعض يهاجم الشاعر لمجرد ورود اسمه في النص الشعري فقط لعلمه بأنه ينتمي لمدرسة دون الأخرى والحقيقة أن مكمن الخلل في فهم الحداثة لا في الحداثة نفسها , وما يُضعف الحداثة في الشعر العربي هو الفهم المسطح لها والاعتقاد الجازم لدى البعض أن الغموض قيمة مضافة في كل حال وعلى حال وهنا مكمن الخلاف اللانهائي فالقضية ليست قضية معنى غامض تفهمه فئة دون أخرى بل قضية لفظ مركب وفق موسيقى ووزن شعري وأصبح غامضا لفظيا مع وضوح مقصد الشاعر وهذا البناء اللفظي هو مبعث الاستخفاف بالحداثة لأنه ليس ضرورة فنية ولاقيمة مضافة بل تركيب لغوي غامض يُراد به إضفاء مسحة الحداثة كما يعرفها المتلقي والناقد والشاعر العربي في أغلب الأحيان
إذا تضخيم البعد الكلامي واللفظي على حساب تهميش وتهشيم المعنى والمضمون هو الدارج في حداثة الشعر العربي في معظم الأحيان وهو سبب الرفض الكلي لمعنى الحداثة لأنه وباختصار مازالت التجربة التقليدية في الشعر العربي القديم أفخم وأضخم وأغنى شعريا من التجربة الحديثة
وفي تعريف الجاحظ للبلاغة ما يغني عن الاسترسال حول هذا الإيغال اللفظي المركب والذي يشبه الشعر المترجم يقول الجاحظ :"لايكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ،ولفظه معناه، فلايكون لفظه الى سمعك، اسبق من معناه الى قلبك.
وبشكل عام دون تخصيص الحديث عن شاعر بعينه يُلاحظ كل منتمٍ للشعر أن هناك نوعاً من الانسياق الجماعي خلف التقاط نوع معين من الكلام أو نوع معين من الصور وضمها إلى بعضها في غياب أي رابط يولد معنى للنص
إذا لم يخدم الغموض والرمز والايحاء البعد الفني في النص الشعري فسيكون ذريعة وملجأ للهروب والاختباء من ركاكة المعنى والبناء بدعوى الحداثة , مهرباً من عمودية النص لنثره بدعوى الحداثة , ومهربا من سلامة الألفاظ وتركيبها بدعوى الحداثة ومهربا من وحدة الموضوع ومشاركة المعنى مع المتلقي بدعوى الحداثة
ولأن الحديث عن الشعراء وتقسيمهم بين حداثي وتقليدي من جميل ما يُختم به ماذكره الثعالبي عن الشعراء في قوله إني أخاف أن أكون رابع الشعراء، أراد قول الشاعر :
الشعراء فاعلمنَّ أربعه
فشاعر يجري ولا يُجرى معه
وشاعر من حقه أن ترفعه
وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر من حقه أن تصفعه