يرحل ذلك الغريب ، من تلك القرية النائية ، يرحل وفي حقيبته كل سؤال عجيب ، يجوب الديار بحثا عن رفيقة ، وفي قلبه نكات سوداء تعيسة ، يشعر بوخزها الشديد ، أمنيته أن يطلق سراحها ، لكنه يشعر بميله إليها ، فتأبى النفس أن تتركها ، ليصل إلى تلك المدينة ، ويعيش فيها كعبد من أولئك الرقيق ، مضى عمره بين التضجر وعدم الرضى ، يريد أن يصبح سيِّدًا حرًّا ، لكن هيهات ، وهيهات أن يجد ذلك لا في القريب ولا البعيد , امتهن نفسه فأهين ، فاضطر إلى تقمص شخصية العظيم ، ومن وراء الأقنعة ، مجّدَ نفسه بكل تهريج ، كالمهرّج تماما ، يمج في وعاء له ، بكل حقد دفين ، اقترب يا أنت منه ورافقه ، ستجده بؤرة التمرّد السقيم ، وستكتشف ذلك ولو بعد حين ، الآن ابتعد عنه واسمع له ، ستجده كملاك يحلّق في كل سماء بلا ضير ، أو اعتبار للإخلاص في التعبير ، ظنًّا منه أنه يجيد التحليق ، فلا يغرّنك هول ما تبصره ، فرؤيته تسرّ الناظرين ، وبصيرتك ستقودك إلى شكله القبيح ، ولا يغرّنك تبجحه ، فالجمع الغفير بالغوا له بالتشجيع ، والتبجيل ، وتقديسه حتى بات يرى نفسه ربًّا للجميع ، يقتبس من هنا وهناك ، روائع الحديث ، وحسن التملّق ، والتألق ، والتأرجح في بساتين العقيق ، أجاد السرقة لكل فكرة ، معلنا بأنها وحي جديد ، يشعرك بأنه ذلك البائس المسكين ، حق لهُ ذلك ، فلا تعليل ، سوى أنّه قام بالتركيز ، بالصعود على أكتاف الغير ، أجاد نعم أجاد ، يخفي كل طريق ، تؤدي إلى من كان له التأصيل ، إنّه ينتقل إذا اشتدَّت حُلْكة اللَّيْل ، عبر الظلال ، لكي لا يراه نبلاء مجد أكيد ، فيكْتشف أمرهُ البغيض ، وفي إحدى استعراضاته ، رأت إحدى العيون حسناته ، هي أنثى كساؤها السكون ، يرافقها البؤس الذي حولها يدور ، رأته ، أحبته ، فحدثته ، وحدثها بحديث مخمور ، ظاهره حَسَنْ ، وباطنه خَرِبْ ، فخيّل لها ، أنه حب وقتها ، فتعلّقت به حتى أمعنت الرؤى ، ولا لغيره يرى ، هذا ما كان منه وما كان منها ، فلقد كان وحيدًا في رحلته ، وهاهو الآن برفقة رفيقته ، وهي تتوسد مكانته ، تقدم له العشق ، ويقدم لها الفسق ، أخلصت له فمهدت الطريق ، لتكون ملازمة له ، لا تعلم أحدا غيره ، وهو يخون في ظاهر الغيب ، ألم اقل لكم بأنه صفيق ، منافق سكيِّر ، يرى نفسه العارف الذي منه وإليه كل أمر يصير ، ويرى بقية البشر مستنير ، به يعيش ، وأرذل الناس عنده هم أولئك العبّاد ، الزهّاد ، الذين يتّبعون السلف بمنهج سليم ، من غير تحريف أو تزييف .
مضت الأيام ؛ والأحداث تقرأها الأقدار ، وتقضي بما أمر الله ، دون أي تأخير أو تعطيل ، كانت تمهيدًا لوقت آخر ، يأتيه العذاب بلا تحذير ، فهذه سنة الحياة ولا اعتراض .
في إحدى الليالي ، كانت تلك تنادي ، إنها حسناء في الفناء ، تنادي صاحبنا ، هيا تعال ، فلبى ذلك النداء ، وقال ها أنا ذا ، فكان حديثه لها ليناً ، حق له ذلك ، إنها تلفت الأنظار ، وصيد ثمين ، فمضى بينهما الحديث ، رحب بها ، ورحبت به ، ثم دارت بينهما خواطر الإعجاب ، كان لها كذلك ، فاستقبلته المهالك ، إنه الآن أسير هالك ، وتلهفه لا يتمالك ، يترنح هنا وهنالك ، تأتيه الخالصة له ، فيأبى ذلك ، ثم تأتيه من تخال إليه ، ولا تأبى لحاله، فيقول لها ، أهلا بجمال هو لك ، أنتِ السرور ، وغيرك يبور ، أنت سكن القصور ، ومن دونك في القبور ، أنت حياة للفتور ، ومسكن لي وهل أنا بك أجود .
ثم تراهُ وقد أضناه الحب وأعماه ، فتأتيه بكل خيلاء ، فيأتيها بكل ذل ، يلبي لها كل أمر ، ولا يعترض بأي فعل ، .
ضاع المسكين ، وتاه في درب ، لا يعلم أنّه سوء المصير ،علمت من أحبته ، أنّه يخون في الغيب ، فما أن قابلته ، حتى قالت له ، لقد تم قتلي ، واستبحت الخيانة لي ، فكانت هذه نهايتي ، يا لك من إنسان ، تعبد العصيان ، لن تراني بعد الآن ، وعلمًا سأحيطك به ، وأخبرك بسرّهِ ، إن الحسناء رفيقة لي وصديقة ، حدثتها عنك ، وأني مخلصة لك وأنت مخلص لي ، فاتفقنا على رهان ، بصدق محبتك النابعة من الوجدان ، على أن تعترض هي طريقك ، وتلهيك ، ثم تغريك ، وأنها مهما أغوتك ، فلن تلقي لها ذلك البال ، فكان منك ما كان ، وداعا إذن بلا غفران .
انتهت أيامه ، وعقابه كان شديدًا ، من رب السموات تأديبًا ، فلقد كشفت كل ألاعيبه ، فطرد شر طرده ، من تلك المدينة ، فعاد بكل حسرة ، إلى مسقط رأسه ، إنه يندب حظه ، وبالسم يسقي نفسه ، حتى مات ، فانتهى بموته ، قصة لجرمه ، وما هذه إلا قصة فحواها تؤتى ، بكل عبرة تعلى ، وعلينا أن نعتبر ونخشى ، فهل لنا في التاريخ عبور ، فالحياة بنا تدور .
تمت
علي آل علي