في 25 فبراير، 1988م. _ جنيف
كتب نزار قباني رسالة إلى " رجاء النقاش "..
الحبيب الحبيب رجاء..
رسالتك تفتح القلب بعدما سد هذا الزمان العربي الرمادي أكثر شرايينه، ولأن الرسالة صادرة عن رجاء النقاش بالذات، ولأنك ضميرنا النقدي المشتعل والنظيف، فإننى اعتبرها شهادة من الشهادات الناصعة والنادرة التى أعطيت لي خلال أربعين عاما من العمل الشعري، لقد بددت خوفي يا رجاء على مستقبل الشعر، وأعدت ثقتي بالكلمة القادرة على التغيير، وعلى التفجير، وعلى إشعال الحرائق فى ثياب الناس وفى ضمائرهم، لقد أُعطيت أمسيات شعرية كثيرة في حياتي، ولكن أمسية القاهرة كانت بالنسبة لى ولادة ثانية، وصار بإمكاني أن أؤرخ شعري على الشكل التالي: قصائدي قبل أمسية القاهرة فى 4 فبراير 1988، وقصائدي بعد 4 فبراير 1988، تماما كما يتحدث المؤرخون عن وقائع ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد.
لقد أعطتني أمسية القاهرة الشعرية القناعة أن الشعر لا يزال سلاحا خطيرا بإمكانه أن يفتح الممالك، ويقتحم القلاع، ويمنح الثواب، ويفرض العقاب، ويدق بعنف على أبواب الظالمين، وأن الشاعر ليس رديفا للسلطة، أو هو سلطة فوق السلطة، إنني فخور أن تكون قصائدي - حسب تعبيرك الجميل - "منظمة للتحرير العربى"، وأن تفتح أمام الناس باب الجهاد الأكبر ضد نفوسهم، والحقيقة أنك أعطيتنا تعريفا جديدا للشعر حين جعلته "حركة تحرير " تستهدف تخليص الإنسان من قوى القمع، والظلام، والظلم، والابتزاز، وإشعال قناديل الحرية فى داخله، واكتشاف مناطق الخير والجمال والصدق فى أعماقه.
ليست هناك مجانية، أو عبثية فى الشعر، واللغة ليست أداة ترفيه، وفرفشة وطرب، إنما هى كتيبة مسلحة لمقاتلة التخلف والغيبوبة والأفيون الفكرى، ليست هناك خيارات كثيرة أمام الشعر، فهو إما يكون مع الناس وإما يكون ضدهم، ولا قيمة لشعر يقف فى الوسط، وينضم إلى مجموعة الحياد الإيجابى، ويلبس طاقية الإخفاء حتى لا يلقى القبض عليه متلبسا بجريمة قول الحقيقة.
الشعر يا أخ رجاء، ليس حفلة تنكرية ندخلها دون أن يعرفنا أحد ونخرج منها دون أن تثير الشبهات، أو نتعرض للفضيحة.. الشعر هو فضيحتنا الجميلة وكبار الشعراء فى العالم هم شعراء مفضوحون، المتنبى كان شاعرا مفضوحا.. وأبونواس كان شاعرا مفضوحا، وعروة بن الورد كان شاعرا مفضوحا، وبودلير وفيرلين ورامبو، كانوا شعراء مفضوحين.
البكارة فى الشعر غير مطلوبة، وعذرية الشاعرة لا تزيد عدد العرسان بل هى تنقصهم، لذلك تجدنى دائما هاربا من "بيت الطاعة" الشعري والثقافي والإجتماعي والسياسي، وتجدني دائما فى حالة صدام مع الشرعيات غير المشروعة، طبعا إن خروجي على السطر كلفني الضرب على أصابعي العشرة منذ الأربعينيات حتى اليوم، لكنني لم أرتدع، فأصابع الشاعر مثل نبات الفطر، أومثل الأخطبوط، كلما قطعوا ذراعا منها نبت مكانها عشر أذرع.
إنني أعرف ضريبة الشعر جيدا، وأقبلها بغير اعتراض ومكافأتي الوحيدة، ولا أريد مكافآت من أنى نوع آخر، هي أن أرى صورتي محفورة فى أحداق الشعب العربي، وصوتي معرشا على جدران القاعات، كما جرى فى أمسيات القاهرة الشعرية، عندما يصبح الشاعر جزءا من ذاكرة الجماهير العربية، وجزءا من دورتها الدموية، فإنه يكون في قمة الصحة والعافية، ولا عافية لشاعر غير مقروء.
سأبعث لك بأول فرصة بأعمالي الشعرية الكاملة، وأعمالي النثرية المتفرقة، وسأوافيك قريبا بمجموعتي الشعرية الجديدة " تزوجتك أيتها الحرية " ومسرحيتى النثرية " جمهورية جنونستان " .
إلى أن نلتقى مرة أخرى لك وللعزيزتين...
كل الشوق، وكل الحب..
نزار قبانى.