لتوّي استدركتُ أمراً تغافلتُ عنه :
- "أني عشتُ طفولتي بطفولة الآخرين , و ذاكرتي بذاكرتهم"
في بيت جدي الذي على أبعاده المتوسطة إلاّ أنه كان رحباً جداً من الداخل , فسيحاً جداً من الخارج ننتشرُ فيه فتأكلنا الأزقة و المسالك و تكتمُ "شيطنتنا" أبواب الغرف .. و رغم أننا نحنُ الأطفال نوقظُ هموم الجدران مبكراً بالضرب و الخبط و الإتيان على السلم صعوداً و نزولاً إلاّ أن الأنفس كانت تسعنا و تسعُ حماقاتنا و نحتُ ذكرياتنا ..
كل شيء كان جميلاً و بخير دائماً .. هذه العصافير التي تحتلُ شجرة الليمون تظلُ تمدُ صوتها نحو السماء تغريداً و تلحيناً , و القطةُ التي تسترخي بين النخلتين أو الثلاث نخلات المائلة , خالتي التي تطلَُ علينا من باب المطبخ المفتوح على المُلحق و نحنُ نركض و نمثلُ مسلسل "ريمي" و نظلُ نلهثُ حول حلقة لا نريد لها أن تُقطع إلا بصوتها حين ينادي على وجبة الصُبح .., لا نعطي أذناً للكبار و لا نأخذ بهموم العائلة فـ كل شيء كان يمشي كـ حقيقة مطمئنة و ثابتة حتى صحنُ الجبن و العسل ..
البساطة تجعلُ منكَ انساناً أكثر , تُأصلُ فيكَ حب الحياة و الرغبة في عيشها بأقل التكاليف , تعيدكَ دائماً إلى حقيقتك و تمشّطُ فيك خصلة الفطرة , حتى إذا ما جُمّدت مشاعرنا و صارت وجوهنا كـ المعلبات , شقينا و صارت الأيام تفاحة مُرّة بعفن الذبول تغصُّ بها في منتصف حلقك , حياة رتيبة .. كـ يومي هذا ..
كنتُ أسير متوجهة إلى غرفة المجلس وقفتُ على الباب و سفرةُ الصباح ممتدّة و فوقها قطعُ خبز أطرافها تقوّست و تخشبت على حالها و بقايا عسل و جبن كانت لوردية قامت عن مقاعدها و تركت أكواب الشاي و الحليب نصفُ فارغة ونصف ناشفة ..
جاءت عمتي "عايدة" بإكرام المتأخرين عن الوجبة - و منهم أنا - بطبق بيض مقلي أعدتهُ و اختارت رائحتهُ الشبه محروقة التي حاولت أن أكررها اليوم و ألتقطُ اللحظة التي رفعت عن النار مقلاتها ,.. أندمجُ تماماً و تبدو لي الأبخرة غمامات حالمة أميلُ بأنفي و ذاكرتي بعمق لـ استرداد مشاهد خطفها النسيان مني , مشاهدٌ تقفُ على عتبة اسمنت بعيدة ينفرُ منها سلك حديد متين يثني رأسه مرة أخرى باتجاه العتبة المتآكلة , أبللُ اصبعي بالماء و أرسمُ على الباب البنيّ الغابر ألف صورة و حكاية حتى يتقاطر الباب بالماء و أكتشفُ أن إصبعي كان مكنسة جيدة .. أتركه ينشفُ قليلاً ثم أعود بغمس اصبعي و أرسم بملل خفيف .. صورٌ لا أراها إلاّ بحضرة هذه الرائحة , الوجوه التي نفضت النوم عنها و ربما ضحكةٌ مارقة سدّت عن شقوق الباب مداخل الحزن .. و أشياء كثيرة , أحرقتها شمس الضحى .. أكون على حالي فيرتفعُ صوت أمي:
"يآ في المطبخ طفّ النار"
ألوي ألسنة اللهب و آكل وجبة محروقة , نارها .. لا تشبه أبداً نار أضلعي ..
و لا نار "عايدة" ..
.