قِصصٌ تُروى . - الصفحة 4 - منتديات أبعاد أدبية
 
معرفات التواصل
آخر المشاركات
ورده رقيقه .. (الكاتـب : تفاصيل منسيه - آخر مشاركة : سعيد الموسى - مشاركات : 3 - )           »          قال لي مجنوني .. (الكاتـب : كامي ابو يوسف - مشاركات : 3 - )           »          النهر النبي (الكاتـب : كريم العفيدلي - مشاركات : 3 - )           »          اوراق مبعثرة!!! (الكاتـب : محمد علي الثوعي - مشاركات : 531 - )           »          رثاء متأخر، وعتب على الـ"غرغرينا"! (الكاتـب : حسام المجلاد - مشاركات : 7 - )           »          لاَ مِسَاس ... ! (الكاتـب : جليله ماجد - مشاركات : 568 - )           »          >الحــالــة الآن ! (الكاتـب : رحيل - آخر مشاركة : سعيد الموسى - مشاركات : 470 - )           »          طفل الغيم (الكاتـب : أحمد عبدالله المعمري - آخر مشاركة : سعيد الموسى - مشاركات : 1 - )           »          تعريفات في كلمة ونص (الكاتـب : سيرين - مشاركات : 518 - )           »          تساؤلات تضج بالإجابة (الكاتـب : نواف العطا - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 255 - )


العودة   منتديات أبعاد أدبية > المنتديات الأدبية > أبعاد النثر الأدبي

أبعاد النثر الأدبي بِالْلُغَةِ ، لا يُتَرْجِمُ أرْوَاحُنَا سِوَانَا .

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-22-2009, 01:46 PM   #25
عائشه المعمري

كاتبة

مؤسس

افتراضي معاوية الرواحي



ابتسامة لـرجل الغروب


لأنه هناك. رأيته واقفا بسكون النجوم، في البعيد .. يترك بصْمته بذاكرتي صدى، كالراحلين، والتفاتة أخيرة يتركونها
لدموع الأحبة. أنصت لوقع خطواته الحزينة وأتأمل خيال وجهه المنطفئ، أتخيل عينيه فأخاف السقوط من السماء
بدونهما. يمشي برفق وكأنه يشفق على القرميد من الوداعة الساكنة خطاه في مروره العابر.
هناك أسفل معطفه الداكن أترك للخيال نفسي وأسافر معه في غروب جديد من التأمل. يقف كتمثال نابض بالحياة، واضح
التفاصيل، مبهور الأنفاس. يحدق في المدى الواسع، أتخيل عينه وهي ترفّ تحت عصف النسيم؛ فيبدو مرهقا من وطأة
لطفها على قسماته الساهمة. وتهرب الأنّات من صدري مرة أخرى. تنتهي الشمس من غرقها الأزليّ فيدير ظهره بادئا
غروبا آخر لغريب وحيد، وفتاة تتبعه ببقايا التساؤل وتتابع الأنفاس. وأغمض عينيّ مقترفة حلما جديدا:

- أيها الرجل هناك. أيها البعيد.

((يلتفت إليها كما يرى سفينة تعبر البحر، يبتسم كما ابتسم يوم اختفت الشمس خلف السحاب، وغربت مرتين، تناديه
فيغادرها النداء، يريقه لفح أنفاسها على شرفتها، تسكب الماء على الزهور ويغادرها بابتسامة الغروب، فترتجف.))

ربّاه، أهو الحب؟ شرفة تعانق الغروب، ويدي المرتجفة وراء أصيص الزهور، رجل غريب يأتي ويرحل بكل غموضه
ليتركني محدقة في حمرة الشفق، ولا أعلم أين أنا. ليته يحملني على الطرف البعيد من ابتسامته، وليتني أودع نفسي في
شروده للأبد وأبقى هناك حتى تنتحر الشمس للمرة الأخيرة.

تسقطتٌّ أنباء قدومه الذاوي وحضوره الخائف لمقتل الشمس كل يوم، فلم يجبني إلا الغياب وكأنه لم يكن إلا بداخلي، ربما
لأنه يمرّ على هامش الزمان والمكان لديهم، لا يرونه من شرفتي الصغيرة كما أفعل كل يوم، لا تحاصرهم الأسئلة لمرآه
شاخصا الأبصار مشدوها كأغنية المآتم، أو مبتسما كرضيع في صدر أمه. ربما لأنهم لا يلتقونه مع أفق يشرب آخر
انثناءات الضوء، وزهور منتعشة التويجات، تشرب ماء الحياة كما يشرب البحر حمرة الشفق. لأن السؤال كان من نصيبي،
والدهشة آخر ما يجعل قلبي ينتفض كطير مذبوح أو كطائر طنّان يبحث في عمق عينيه عن وجهه مستديرا إلى زهور
شرفتي. لأنه رجل الدهشة، رجل البسمة، رجل جاء ولم يثر غبار الأسئلة حوله، ولم ينثر العجب على الجميع كما فعل
معي؛ آمنت أنني أرى الغروب مرتين، مرة في هروب الشمس داخل البحر، ومرة وهو يخطو خطاه بإيقاعهن الناعم؛ ليترك
فتاة قابعة في انزواء شرفتها، متلاحقة الأنفاس، مصعّدة الأمل.


لأنه رجلي أنا، ورحلتي اليومية في ارتباك لطيف؛ تركته للخيال فرسمه كما شئت أن أراه، بعيدا عن ظله الممتد من حافة
الرصيف حيث يستقر تطاولٌه على صدري. جعلت له عينين واسعتين، يشع الغروب منهما، ويستوطنهما بريقه الآسر،
أعطيته لحية خفيفة تهديه الوقار، تخيلته صوتا واضح النبرات، نابضا بالقوة، مهذبا بالحزن. أوسعت معطفه برائحة
البرتقال، تتصاعد منه فلا تصل لسواي، غادرني كلُ ما رأيته إلا ابتسامته التي يرحل بها وهو يستدير نحوي بوجهه
المفعم بالظل ليواصل نقر الرصيف بوقع أكثر حزنا. جعلت للغبار ثورة رقيقة وهو يمرغ قدميه في نثار الرصيف الرملي.
كما جاء هو بالخيال؛ جاء به الخيال بصورة تهيّج الرعشة، صورة تتركني صريعة لهاجس وحدتي، وتقلبات سؤاله العنيد،
من هو؟.
وأصغي مرة أخرى لحلم آخر:

- أيها الرجل، أنت، يا رجل المعطف.

(( يمر أمامها برتابته المعتادة، يغمرها برائحة البرتقال، يحتك مرفق معطفه بيدها الممدودة، ويواصل عبوره خلالها بين قرميدة وأخرى. وترتجف مرة أخرى)).

قديس يسدن خاشعا أمام البحر، هناك أمام بقايا الملح الجافة في القرميد الأحمر أذعنت للتلاشي، الاستسلام لموجة الوهم
تقذف بي أسفل قدميه فأراه عملاقا كالسماء وأنا جزيرة صغيرة في بحره المتلاطم. رأيته يزفر وقاره الساكن على تخيّلي
فأتنهده أكثر. أصرخ للسماء: "إنني إنثاك أيها البحر، حوريتك أيتها السماء، ودعة يغمرها ظلك أيها القديس ويطهرها
ضوءك أيها المحراب الطاهر، فانزل لي من عليائك أيها الرجل، تنهدْني يا رجل الغروب، دعني أغمرك بالحب، وأرتّلك
تسعين غطسة للشمس، تولّني بصمتك الهادر واحتضنّي حتى تموت السماء". سُجنت بصوتي المختنق طويلا لاجئة لظله
المنتهي في صدري وقلبي يسّاءل عن سره. هناك حيث اللاحلم واللاحقيقة، بين اشتياق ضفائري ليده المودعة بمعطفه
دائما، وبين تحرّك غموضه في حناياي؛ تصاعد صوتي المرتعش حاسبة نفسي أتمازج مع إحدى أخيلتي، حيث افترقت عن
كينونتي لأسكن رغبتي في النداء، هناك وهو الواقف بتأمله الرفيق لغروب يراه كل يوم، ويفرحه كل يوم، كنت -ولم
أحس- أقترف غروبي به وفيه. حيث كان هو ذلك الــ(هو)، ولم أعرف هذه الــ(أنا). لأن الهاجس ناداه وقلب الهاجسة تاه
في عتمة وجهه تسعون يوما:

- إيــــــــــــــــه. يا رجل.

هناك حيث اقترب ناقرا الأرض أسفل شرفتي، عيناه السوداوين، لحيته الخفيفة، وجهه النورانيّ حاملا استفهامه المتجلي مع اقترابه البطيء. من هناك جاء يقترب لفتاة نادت فيه غروبه الآفل وجاءها رافعا نظره إلى شرفتها، برائحة البرتقال التي تضّوع وتنتشر في أوصالها المرهقة. وقف على عتبة الحلم والحقيقة، أسفل شرفتي، أرفع رأسي لأراه، ويرفع نظرته ليراني.

- يــــــــــــا رجل. اخبرني. من أنا؟

يتمايل رأسه قليلا ويغوص أكثر في عينيّ، يلتفت بخطاه الرتيبة نحو طريقه المعتاد، ويكمل رحيله الذي رتّلته الأيام خطوة فخطوة تاركا صمته أمامي. هناك والشمس تتبع ناموس الأفق، استصرختْ الأنثى بداخلي، والحبُ، والدهشةُ، والتساؤلُ، استصرختُ لهفتي وأيامي الممتزجةَ بوقفته:

- يـــــــــا رجل. من أنت؟

يلتفت ويخرج صوته متغلغلا في أوصالي، باعثا الرعشة، ومثيرا رجفة الحلم الأخير:

- أنـــــا رجل الغروب.

يلقي ابتسامة الظل في الهواء، ويكمل خطوه الرفيق طيّ الطريق، مجليّا درب رحيله الأفقيّ، ورأيتني هناك أتشبث بطيف ابتسامة أخيرة، وذاكرة لتسعين رعشة ذهبت ولم تعد.

 

عائشه المعمري غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-07-2009, 05:00 PM   #26
سلمى الغانمي
( كاتبة )

الصورة الرمزية سلمى الغانمي

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 16

سلمى الغانمي غير متواجد حاليا

افتراضي





|

هذا الصفحة دافقة جدا ً
وخصوصاً أبن الجارد كان لانشطاره دفء خاص
سأكون هنا و لا أتعب من شكرك
شكر أول لعبدالعزيز
واسمحلي بنقلها لمدونتي ووطن آخر مدثرة بأسم الجارد


.
.

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

 

التوقيع



الحُزن وحده من يغني , وتتجمهر حوله قلوب كأنها من بيوت طين مهجورة .

twitter : salma alghanmi


التعديل الأخير تم بواسطة سلمى الغانمي ; 05-07-2009 الساعة 05:04 PM.

سلمى الغانمي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-17-2009, 10:08 PM   #27
نوف عبدالعزيز
( كاتبة )

افتراضي لشروق الخالد




تكورت داخل بطن أمي، لاصقت ما بين قدمي وبطني، التحم رأسي بركبتي. ضاعت يدي وسط أحشائي. رغم الغشاء الذي يحيطني هممت بالخروج، كلى فضول وشوق، لم أتنفس بعد، مرتبطة بتنفس أمي، تأتيني الحياة من خلال السرة التى تربطني بها, رئتاها ترتجفان, أرتجف أنا أيضا, تتنفس، أتنفس بدوري، تضحك فأشعر برعشة تدغدغني، تأكل أو تشرب فاشعر بنشوة، فأندفع في هزة إلى الأمام وهزة إلى الوراء، أحيانا أصعد وأحيانا أهبط، لكنى غالبا ما أكون شبه نائمة أو في غيبوبة جميلة, دقات قلبها منتظمة وحزينة غالباً كأني أجلس تحت ساعة ميدان هائلة، أسمع من خلال أذني صوت جريان الغذاء السائل في الجهاز الهضمي، وحركة دوران في الجسم بأكمله. أشعر بدغدغة ونشاط جديدين, اهتز من جديد في حركة دائرية ثم أشعر بسرعة تنفسها فأعرف أنها تسير، أنتبه قليلا، ثم أعاود النوم اللذيذ, ولم أفتح عيني بعد, وأحيانا أخرى أشعر بيد ثقيلة تداعبني ، عرفت بعد ذلك أنها يد أبي , فقد كان لا يفارق أمي أينما حلت بينما هي تحملني أنا/ وحلم أبي بداخلها, أبي كثير القلق , لطم موضع رأسي بيده حين راودته فكرة أن أكون أنثى فانزعجت قليلا, ثم هدأت محاوله أن أتحرك لأفصح لأمي عن غضبى, فيهدأ أبي ويبتسم مطمئناً قلبه بذكورتي فأرتاح لمداعبته انتفاخ أمي وأعود إلى النوم*
ولكن لم أهنأ بنومي ,, قطع هناء إغماضتي صرخات أمي تعلن عن قدومي , مبللة بدماء اختناقي,ودوار يصيب رأسي, كل الأشياء تصرخ , وكلها تدفعني للخروج عنوه,لم تمهلني صرخات أمي بالتفكير بيومان متبقية لي بهذه الظلمة , فانتقلت على عجالة عبر سراديب ظلمة من ظلمة أولى وثانية حتى أوشكت على اختناق بالثالثة, حيث كانت فرحة أبي تطوق عنقي , وارتباكه يؤخر ميعاد إنقاذي,وفرجت أمي ساقيها وتسرب هواء, عبر ممر خروج,وتلقفتني يد الطبيب ورفعني عالياً, فامتلأت رئتاي برائحة مستشفى, فضربني على مؤخرتي, كعادة مشينة جداً لا زالوا يمارسونها ,فبكيت , حين علمتُ بأن الحياة ما هي إلا وجهان للظلم ظالم أو مظلوم ,ثم غسلوني, معلقة برقبتي كـ صغار الهررة بيد أحداهن,وتناثرت قشوري حولي, وبعدها غفوت,ليخترق صوت أذان مسامعي ,الله أكبر ,الله أكبر ,أشهد أن لا أله ألا الله ,أشهد أن محمداً رسول الله ,الله أكبر,الله أكبر, مستقراً بقلبي الصغير لتحبا بداخلي الفطرة الإلهية وفتحت لي الدنيا عيناً أرهقتها ظلمة رحم تسعه أشهر ألا يومان, وكان يومي الأول الذي عمل فيه عداد العمر المتصدي ممزقاً بطنينه حلمي في حياه هانئة بدنيا رضعت الشهوات وغرِقت بالمتع ,فبكيت مجدداً , حين ضحكت أمي بشراً بمقدمي ,ولم يفعل هو , (أبي) فقد تراءت خيبه أمله عذابات تضيق على مهدي حين سأل : ( أيمن..؟؟)وحين لم تجد أفواه الحلم ما تجيبه به,تفجرت ملامحي بالأنوثة وقتلته,فأقترب عاقداً حاجبيه حينها أحسست بأنفاسه وهو يؤذن بأذني , ممارساً طقوسه الإيمانية, دون إي رغبه صادقه منه!لأبدأ حياتي مفعمة بالرضا والإيمان, كيوم ولادتي الغارق بابتهالات الحجيج وقد استقرت أقدامهم وقوفاً بعرفات ,وكانت تلك البداية ,بعدها جاء صوت أمي الهادي من ركن سحيق لـ يجبرني على الابتسام بوجه أبي المتجهم حين قالت : (فؤاد ماذا ستسميها ..؟؟)
فجاء رده متأخراً مدنساً بكفرة بمشيئة الرب,وبارداً بعد أن مارس رجولته بنزع تلك الأفكار والعواطف التي تخنقه مبدداً بيده ضبابات خيال أسهدته ضاغطاً على نظارته لترتطم بقسوة بأنفه الكبير: ( من, اُسمي من ؟؟)تمزقت أمي حرجاً وهي تبتهل للرب شكراً حين منحنها الستر وحرمني نمواً كاملاً لحواسي وعقلاً كي لا أفقه شيئاً مما يقولان و قالت : (ابنتنا..!!)
(إيمان ..) قالها بضيق واصطكت أسنانه حين نطق حروف أسمي محرقه كل مسافات عبور بـ حنجرته وكأن أمي واجهته بحقيقة مرة , صافقاً الباب خلفه,فسقط بعض دمع على شفتاي مبللاً حلقي (فيا عجباً أأرُضعت دمعاً..!!)وبذات الصباح الذي استنشقت اختناق رئتاي من رائحة سيجار أبي , أودعت قفصاً صغيراً, بتلك الحضانة المقرفه, حيث عبرت ممراً طويلاً أراقب نظرات حاملتي وهي تلاحق حلمها بسلب قلب الدكتور المشرف على مراقبة حالتي غير كاملة النمو وتمرر يديها على إزار قميص يستر صدرها,وقبل أن تقذفني مسرعه وسط وجوه عده وتهرب حيث الأخرى التى تعلن عن قدوم دكتور آخر أعلنت عنه بقولها : (بيتفل مان ) , مارست الأجهزة احتضاني حين ضاقت الصدور بحملي ,فـ كنت وقتذاك أراقب الفرحة تشرق في الوجوه عداي ,(أرأيتم رضيعا بائساً..؟؟) مؤكد لا ولكن أنا كُنت كذلك فقد كان إحساسي بالفقد / والحزن سبباً بنضج حواسي قبل أوانها, فكبرت أيامي سريعاً لاحتيازي استفهامات كُثر ,فباءت كل محاولات مناغاتي , مداعبتي بالفشل فلا أبتسم ألا نزراً قليلاً, أليست الأجنة تحمل أمزجة من ضاق بحملها ؟؟!هكذا علقت أمي حين علقت الممرضة ع ملامحي قائلة بلطف : ( ستكون فتاه قوية وجميلة ,,)كانت عبارة أمي كفيلة بمنحي الإيمان بموعد ولادتي الخطأ ,, فرضعت الحزن وعاشرت الكفر مع أبي, حين لم يكن راضياً بقدومي,رغم ممارساته الإيمانية الأخرى,فكانت أول شناعة أرتكبها هي عدم الرضا بأي شيء , ومنها ثديي أمي,وقد حاولت معي كثيراً , حدود التوحد الجسدي حيث ضمتني بقوة وبكت,كان يؤلم قلبها إحساسها برفضي لها, و لوجودي هنا بين يديها لأمتص قذارة ما قذفه أبي بجسدها,ولكن حين عاد الحجيج بيوم عيد لممارسه التكبير,وارتفعت أصواتهم بالدعاء ,وعلا صوت أمي بالتأوهات وصوتي بالبكاء منحت قلبي رضعتان, وحالما انتهت نقمتي من جوع توقف أداراها للحليب, وكأن الرب يعرف أنها لا تستحق منحي حبها المدنس , وأني لا أستحق سموم تقذفها بجسدي,وفي اليوم التالي,تمزق جسد أمي وأنتشر به هزال كالوباء وتابع جسدها قذف دمائها المدنسة بحيوانات أبي وأنبوب اختبار , فتتابعت عليه العمليات, حتى كسا شعرها الشيب وترهل جسدها وسقطت كل أعضائها الجميلة ككتل لحم رطبة أعدت للشواء, لتتسرب لخياشيمي رائحة احتراق ,ففتحت عيناي لأراه أبي واقفاً منتصباً كجسد شيطاني , بعيناه الحمراويين وجلدة الأسمر وابتسامته الصفراء وثوبه الباهت كملامحه الباردة ونظراته القذرة ,ليرسم كمداً وحزناً ع وجه أمي , فلا يكتفي بخمس عشر عاماً ذاقت بها الموت وهي تستسلم لمشارط أطباء تعبث بجسدها النظر في سبيل تحقيق رغبته بامتلاك طفل, وحين سقطت مشوهه كـ كبش فداء لي,عاد ليخرجها حيث جحيمه قبل انقضاء ممارسات العيد بأيامها الأربع قائلاً : ( وليس الذكر كالأنثى) لتغوص أمي بالفكر معلقه نظراتها الحزينة نحوه, ليتابع بصوته الخشن نافثاً دخان خبث من صدره : (أنتِ ترهقين نفسك وتكلفيني الكثير فما فائدة كل ما فعلناه , هي أنثى ) وكـ مشرط كانت كلماته, لتقتسمني نصفين,نصفٌ يكرهه وآخر يكرهه أكثر .



ايقونه فلتس لجورج البهورجي / بتصرف


 

التوقيع


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


أن يقول أحدهم .. أن للحزن حكمه فأنا أتفهم هذا
لكن ما لا أتفهمه ..!!
لماذا تجد الحياة بي ملجأ لطعناتها .؟!
وكأن الأرض لا تخلو من سواي
أؤمن أن للحزن حكمه لكني لم أعد أرى هذا ..!

نوف عبدالعزيز غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 05-18-2009, 12:56 AM   #28
عائشه المعمري

كاتبة

مؤسس

افتراضي سالم العمري


هداية



لاتسألني ياصاحبي لماذا أضحك تارة وأدمع تارة فالمشكلة ليست في الكأس التي في يدي ، فماكان الشرب يوما سببا كافيا
للدموع ولا سببا كافيا للضحك . فقط أتذكر لحظات معينة مرت بي في هذا المكان، أتذكر حين خسرنا أنا وأنت في السوق
تلك الخسارة الكبيرة ، أنت أنجدك أخوتك في لحظتها ، أما أنا فعدت إلى القرية في ليلة رائحتها تشبه رائحة امراة خائنة
مكسورا ذليلا . عدت إلى هنا إلى قريتي ، إلى المكان الذي سقط إسمي من قوائمه منذ زمن طويل ، منذ أن نسيت أهلي
وكل من في القرية ووهبت حياتي للمال ولذيذه فقط .
أذكر تلك الليلة تماما ، كنت أسأل نفسي : ماذا أقول لهم ؟. كيف احيا بينهم ؟، وغدا عندما يكتشفون أني لم أعد أملك شيئا
، ماذا سيفعل بي كل من أسأت اليه ؟. في تلك اللحظات ... أدركت كم أنا وحيد؟! .. وأحسست أن كل ما بداخلي كان خواء
أو أسوأ من ذلك .
دخلت القرية بداية الليل ، نمت في قصري .. الذي أعرف جيدا بأني سأفقده حين يعلن افلاسي . ذلك القصر الذي كان لعمي
الغبي ذات يوم وانتقل بموته إلى حيازتي ... لا أعرف لماذا تخيلته تلك الليلة ؟ ورأيت صورته في كل المكان؟. رغم أنه
منذ موته لم يمر بذاكرتي إلا حين يذكره الآخرون ، حتى بوجود ابنته في سريري ، ربما حضور صورته الطاغي تلك
الليلة سببه أن كل المال كان له لذلك يعاتبني على ضياعه .
أتعرف ياصاحبي أن الساعة الثالثة والنصف صباحا ليلتها لم تسعفني بالنوم؟. ولم تسعفني بأن أذهب إلى مكان ما؟. ولا
أدري لماذا حركتني قدماي أو قدماي حركتاني لأتمشى ليلا في القرية ، كم هي تعيسة تلك الليلة ؟!. وصلت إلى المسجد بعد
أن مررت مشيا على بيوت كانت طفولتي أمام ابوابها واسوارها . آه تذكرت في لحظتها بأن في قريتنا مسجدا ، كانت
صورته قد اختفت كباقي تفاصيل القرية عندي منذ زمن .. وجدته يجذبني اليه ، دخلته دون وضوء ، وبعد أن دخلت بقليل ،
تذكرت بأن علي ان أتوضأ. توضأت . عدت إلى ماكنت أفعله في سالف الايام ، قرأت القرآن ، كان جميلا و مسكنا ، وكان
وصول الناس ووصول إمام المسجد قاسيا على قلبي . أردت أن لايقطعوني عن القراءة ، انها لذة لم أعهدها من قبل. أردت
أن أواصل ، صليت معهم وأعرف أن بعضهم تهامس عند خروجه مستغربا من أن اصلي الفجر ، أردت أن أواصل قراءة
القرآن ، سلمت على الإمام وعلى عدد ممن بقي متأخرا ، ظللت أقرأ حتى أشرقت الشمس .
كانت ثمة نافذة جنب المحراب تأتي بالضوء كأنه حزمة من النقاء ، اطلت عيناي منها ، لترى ذلك المنظر الجميل ، الله كم
موقعه جميل مسجد قريتنا في قمة الجبل؟! تنظر إلى الأسفل فترى الوديان والسهول الممتدة مع خور جميل يمتد حتى
البحر الذي تعكس زرقته أشعة الضوء بجمال متناه ،لماذ لم يفكر أحد أن يستثمر هذا المكان الجميل ؟!. أنا متأكد أن
السياح سيجنون حين يشاهدونه ......
تسألت في داخلي لحظتها :
(أعوذ بالله .. ماذا بي ؟ .. ماذا دهاني ؟ .. أنا في بيت الله .. واريد أن استثمره للتجارة وللسياحة .. لما لا .. لما ..
لما لا يكون الله قادك إلى هذا المكان لتنجو من الافلاس والهوان والذل ؟.)
كانت تلك الكلمات بداخلي ، عصفت بي للحظات ثم انتصر الشيطان الساكن في يسار قلبي كعادته ، وخرجت إلى مسكن الإمام ..
لم يكن من الصعب بأن أجعله إلى جانبي ليساعدني في إقناع أبناء القرية بأن الخير سيعم المكان والمنطقة كلها ، وبأن
أبناءهم سيعملون في المشروع السياحي وبأننا سنبني مسجدا أكبر منه في موقع آخر ، فقمت بأخذ تنازلات من الجميع واستعنت بمعارفي في كتابة الأرض بإسمي وبعتها لمستثمرين كرام ، أحبوا الفكرة وأقبلوا عليها بسرعة وسددت ديوني
وبدأت الحياة تلعب لعبتها معي من جديد .
- هل كان بعيدا من هنا هذا المسجد ؟
- ليس كثيرا أظنه مكان المسبح والمطعم الإيطالي أو أقرب قليلا إلى خيمة الرقص الشرقي.
- وأين بنيت لهم المسجد الجديد ؟
- لم يبن بعد ، المشكلة ياصاحبي بأن أسعار أراضي القرية ارتفعت والميزانية المخصصة للمسجد الجديد لم تخطط
وتحسب لهذا الإرتفاع .

 

عائشه المعمري غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2009, 09:24 PM   #29
عبدالعزيز رشيد
( شاعر وكاتب )

الصورة الرمزية عبدالعزيز رشيد

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2213

عبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي المجنون:عدي الحربش


(ما ترسمهُ الريحُ و تمحوه)

"لكنني أريدهم أن يعلموا بأنني مازلت حياً، أنني أمتلك معلفاً ذهبياً ما بينَ شفتيّ، أنني ما زلت الرفيقَ الصغيرَ للريحِ الغربية، أننّي أنا الظلُ الهائلُ لدموعي."

( فيدريكو جارسيا لوركا )



عندما اختارتْ أمُ راكان اسمَ راكان، كانت تريدُ لهُ أن يحملَ أجمل الأسماءِ كافةً، و لم يخطر ببالها أنهُ سيشبُ و يكبر دونَ أن يسمعَ الاسمَ الذي اختارتهُ له. فبعدِ ستة أشهرٍ من ولادته، و عندما كانت تفلي بأصابعها النحيلة شعراتِ رأسه، لاحظتْ سائلاً أصفراً غليظاً يخرجُ من أذنيه، و عندما استشارتْ إحدى عجائز القبيلة، أشارت عليها العجوزُ بأن تحشوَ أذنيهِ بالرملِ حتى لا يدخلَ الماءُ إلى رأسِه، و يختلطَ عليهِ عقلُه.

لا تدري أمُ راكان هل أجدت نفعاً نصيحةُ تلك العجوزِ أم لا، فلقد كَبرَ ولدُها و أظهرَ عقلاً راجحاً يزنُ بلداً كاملة، و لكنهُ للأسفِ لم يكن قادراً على أن يسمعَ و لا أن يتحدثَ ليدللَ على ذكائهِ و فطنتِه عندَ الأغراب. يمكنكَ أن تعيشَ أعمىً في الصحراء، و لكنكَ لا تستطيعُ أن تعيشَ أبكماً أو أصمّاً. ما الجدوى التي يعلقها عليك رجالُ القبيلةِ إن كنتَ غيرَ قادرٍ على أن تأتمرَ بأوامرِ رئيسها، و لا أن تطربَ لقصائدِ شاعرِها، و لا أن تصرخَ في وجوهِ أعدائِها صرخةً تُدخلَ الرعبَ و الفزعَ في قلوبِهم؟

لذا لم تجد أمُ راكان كبيرَ غضاضةٍ و هي ترى فلذةَ كبدها يخرجُ بالأغنام يومياً كي يرعى بها. كانت صحبة الأغنام التي لا تعقلُ و لا تستطيع الحديث أهونُ لديه من صحبة البشر الذين يعقلون و لكنه لا يستطيع الحديث معهم. كانَ يتفننُ في تشذيب عصاه التي يقودُ بها الغنم، و كان يتخيرها من أجود أنواع شجرات الطلح التي يمتلئ بها الوادي المجاور، و سرعانَ ما اهتدى راكان إلى فائدةٍ جديدة لتلك العصا، حينما اكتشفَ في نفسهِ موهبةَ الرسمِ على الرمال.

لا أدري كيفَ اهتدى راكانُ بالضبطِ لهذه الموهبة، و كيف تعلمها، و لكنهُ سرعانَ ما أخذَ يمارسها باستغراقٍ و يطورها كلَ يوم. كان لا يحتاجُ إلى أغراض أو أدوات لممارستها، فشجراتُ الطلحِ تملأُ الوادي الذي يسكنون بجانبه، أما حبات الرمل، فلقد كانت أكثرَ ما تزخرُ به الصحراء. كانَ أول ما تعلمه هو رسمُ إطارٍ صغيرٍ مستطيلِ الشكل، كي يحصرَ جهودَهُ و ضرباتِ عصاه داخلَه، و لقد كان مضطراً لأن يجعل الإطار صغيراً، فالرسمُ على الرمال معناه أن تنحنيَ بظهرِك حتى تصلَ إلى الأرض دونَ أن تضع قدميك أو يديك داخلَ الإطار حتى لا تفسدَ اللوحة. لذلك، كان يرسم إطاره الصغير، ثم يستلقي بجانبهِ على شقه الأيسر حتى يبدأ الرسم. بدأ راكان برسم الغنم و الهضاب و شجرات الطلحّ، و عندما تطوّرت موهبتهُ و ازدادت ضربات عصاه خِفة و رشاقة، بدأ يرسم نساء و رجال قبيلته. سرعان ما طوّر راكان موهبته بشكلٍ مُبهر، إذ بدأ يرسم إطاراتٍ أكبر تسمحُ له بإيداع المزيد من التفاصيل داخلََها، و لكي يتغلب على مشكلة آثار الأقدام، صار لا يضع قدميه إلا في مواضع محسوبة، يعزمُ أن يستخدمها لاحقاً و يمرّ عليها بالعصا في تسلسل منطقي رائع.

سرعانَ ما تعرّفَ راكانُ على عقبتين تفسدان عليه لوحاته الرملية. الأولى كانت طبيعة حبات الرمل نفسها، و التي تتساقط في الشقوق و المسامات التي يخلقها بعصاه بشكلٍ سريع و متتابع، حتى تختفي ملامح الشئ الذي شرع برسمه قبل الفراغِ منه. هذه المشكلة جعلت راكان خبيراً في نوعيات الرمل و التربة التي يقصدها لرسم لوحاته، إذ أنّ من العبث الرسم على الرمال الناعمة التي تتسرب كالماء داخل التجاويف و الحفر التي تخلقها عصاه، و كذلك من العبث أن يرسمَ على التربة المروية المتشققة بعد المطر، إذ كانت تتكسرُ بشكلٍ فوضوي و غير محسوب كلما أراد غرز عصاه فيها.

العقبة الثانية اكتشفها في ذلك اليوم الذي رسمَ فيهِ وضحى -ابنة عمه التي كان يتعشقها سراً في صباه-. لقد اختار أجودَ أنواع التربة في ذلك اليوم، و قضى النهارَ كاملاً و هو يضربُ بعصاه بحذرٍ، و يحاول أن يودعَ الرملَ سرَّ عينيها الشهلاوين و أنفها المدبب و ابتسامتها الحلوة. عندما فرغَ من لوحته أخذ يتأملها في إعجابٍ و افتتان. لم يسبق لهُ من قبل أن أَطلَعَ على لوحاته أحداً غيره، و لكنه هذه المرة، أحسَّ برغبةٍ شديدة بأن يتعرف إن كانت لوحته قادرةً على أن تدخل في غيره نفس شعور النشوة و اللذة اللذين تدخلهما فيه. أخذ راكان يركضُ باتجاهِ المضاربِ و الخيام، و عندما رأى ابنة عمهِ أشار إليها في إلحاحٍ كي تتبعه. بدأَ قلبهُ يخفقُ بعنفٍ عندما أحسَّ بالرياح تضربُ على أعقابهِ و تثيرُ الرملَ حوله. التفتَ نحو وضحى التي كانت تعدو وراءه، و أصدر صوتاً عالياً يستحثها فيه على أن تعجّلَ من وقعِ خطاها. عندما وصلا إلى الوادي، كانت الريح قد أخذت وجهَ وضحى مَعَها و مضتْ.

و كما دفعت التربة راكانَ إلى دراستها، كان عليه أن يبدأَ بدراسة الريح. هناك أنواع مختلفة من الرياح، هناك الريح التي تهبُ في مواسم معينة كريح الخماسين، و هناك الريح التي تهبُ من جهات معينة كالصبّا و الدَّبور، و هناك الريح التي تهبُ كيف شاءت في كل الأوقات و من كل الجهات. كان الأمر أشبه بالعبث، مما دفعَ راكانَ إلى أن يؤمنَ بأن هناك شياطين و سعالٍ في الصحراء تنفخ الريح متى شاءت كي تفسد عليه لوحاته. عندما أعجزته معرفة طبيعة الريح، حاول أن يتحوّط منها، و أن يتذرى بهضاب الأرض من عصفها، و لكن كل ذلك لم يجدِ نفعاً. كانت الريحُ تلعبُ و تدورُ و تغير اتجاهاتها كل لحظة، و كأنها تنوي إغاضته و اللعبَ على أعصابه. الفائدة الوحيدة التي كان بإمكانه أن يعزوها إلى الريح، أنها كانت تغنيه من أن يمسح الأرض بعد الفراغ من لوحاته التي يتعرض فيها لرجال و نساء القبيلة، و لقد رسم مرةً زعيم قبيلتهم الذي لا يحبه كثيراً، و ركزَ عُرجوناً ناتئاً بين فخذيه.

لقد كان الصممُ بمثابةِ نعمةٍ بالنسبة إلى راكان، إذ أن طبيعته الحالمة كانت تضيقُ بمعاشرةِ البشر و الجلوس إليهم، و لكن إن كان للصممِ عيبٌ رئيسي، فهو أنهُ يجعل الأخبار لا تصلكَ إلا متأخرةً، إلا متأخرةً للغاية. ففي إحدى الصباحات الحارّة، لمحَ راكانُ رجلاً و هودجاً غريبين يقفانِ أمامَ خيامِ عمهِ ضاري، و عندما استفهمَ من أمهِ عن أمرِهما، وضعت سبابتها تحتَ أذنها و سحبتها حتى وصلت إلى ذقنها -مما يعني أنها تتحدث عن وضحى-، ثمَّ كوّرت يدها اليسرى، و أدخلت بنصرَها الأيمن في يدها اليسرى، و كأنها تلبسهُ خاتماً.

حلَّ الخبرُ كالصاعقةِ على راكان، و تمالك نفسه حتى لا يتهاوى أمام والدته. استجمعَ كلَ قواه في ساقيه المرتعشتين، و أخذ يمشي بخطى متهالكة قاصداً الموضع الواقع وراء الخيام حيث لا يراه أحد. عندما خلا بنفسهِ هناك، أخذ يجري بكل ما بقي في ساقيه من قوةٍ حتى غاب عن الأنظار. كانت الريحُ تشتدُ في أثره، و كأنها تسابقه نحو الموضع الذي يقصده. لم يتوقف حتى وصلَ إلى وادي الطلحِ، و عندما توقف، كانت الدموعُ تسيلُ دِفاقاً فوقَ خديه. أحسَّ راكانُ بغصةٍ هائلةٍ تترقرقُ في حلقه، و بفقدٍ هائلٍ يملأُ روحَه، و لكنَّ أكثر ما أفزعهُ هو هذا الضعف الذي لم يعهدهُ في نفسِه.

وضحى تزوجتْ! تَزَوجَها الرجلُ الغريب الذي لم يره في المضارب من قبل، و سيمضي بها إلى قبيلته و أهله، و لن يراها أبداً بعد الآن. لن يرى وجهها الحبيب و عيونها الواسعة بعد الآن. لن يرى ابتسامتها الحلوة و أنفها الأشمّ. سوف تمضي، و سينساها، و ستسرق الأيامُ ذكراها كما تسرقُ الريحُ لوحاته الرملية. كانت سعالي الصحراء تنفخُ الرياحَ بقوةٍ و تنثرُ الرمالَ فوقَ وجهه، و كأنها تسخرُ منه.

قفزَ راكان إلى أقرب شجرةِ طلحٍّ منه، و سحب أحد أغصانها حتى كسره، و أزال الأشواك الناتئة بسرعةٍ تجرّحت معها يداه. كانت الريحُ تشتدُ من حولهِ و تنثر الرملَ و الغبار. انحنى راكان على الرمل و بدأ يرسمُ بهوسٍ و بسرعةٍ وجهَ وضحى. لم يرسم إطاراتٍ هذه المرة. كان عقله مشغولاً عن الإطارات بوضحى، و كانت الريح تعصفُ بشدةٍ لا تسمحُ له بأن يهتم بأمور شكليةٍ مثل هذه. و لكنَّ رسمَ أي شئٍ تحتَ عصفِ هذه الريح المسعورة كانَ أشبه بالمستحيل. كان كلما حفر خطاً على الرِمال، أزالتهُ الريحُ العاصفة، و كانت الدموعُ المختلطةُ بالرملِ تملأُ عينيه و تعيقهُ عن الرؤيا. لكنه لم يتوقف. كان يرسمُ و يرسمُ و يرسم، حتى حرثَ الوادي خطوطاً تحاولُ أن تتشابكَ لتحفظ له وجه حبيبتهِ دونَ جدوى. في الأخير، سقطَ راكان متهالكاً بعدَ أربعِ أو خمس ساعات، و أخلدَ للنوم على إحدى التلات المرتفعة المُطِلة على الوادي.

عندما أفاق، كانت الرياح قد خفّت حتى كاد أن لا يشعرَ بها، و كانت الشمسُ الغاربة تنثرُ أشعتها الحمراء على طول الوادي. تطلعَ راكان من تلتهِ المرتفعة إلى الأسفل، و أخذَ يتتبعُ آثارَ ضربات عصاه التي أبقت الريحُ بعضاً منها، بعد أن لعبتْ بها و غيرت في اتجاهاتها. كادَ قلبه أن يتوقف عندما وصل بعينيه إلى الجانب الجنوبي من الوادي، و عندما تأكدَ من حقيقةِ ما يراه، طفرتْ دمعةٌ أخيرةٌ من عينهِ أحسَّ بعدَها بالطمأنينةِ و الراحة. كان وجهُ وضحى مبسوطاً على مساحةٍ هائلةٍ من الرمال. كان مرسوماً بتفاصيله الدقيقة، و ملامحهِ المُحببة، و جماله الهادئ. هذه هي وضحى بعينيها الشهلاوين، و أنفها الأشمّ، و ابتسامتها الحلوة. هذه هي وضحى كما عرفها و كما سيتذكرها دائماً. و لكنَّ أكثرَ ما أثار انتباه راكان و دفع بالدمعة الأخيرة فوق خدِه، كانت عنقها الطويلة التي رُسمت بطريقةٍ غريبة، و كأنها تلتفتُ إلى الوراء، قبل أن تمضي بعيداً مع الريح.

 

عبدالعزيز رشيد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2009, 09:28 PM   #30
عبدالعزيز رشيد
( شاعر وكاتب )

افتراضي عدي الحربش ..


(حكايةُ الصبيِّ الذي استطاعَ أَنْ يَرَ الَنوم)


هاكَ يدي، وتعالَ معي.. فسوفَ آخذكَ إلى مكانٍ لم ترَه من قبل. سوفَ أذهبُ معكَ إلى بغداد -حاضرةِ الخلافة- لأجوسَ بكَ أزّقتها العتيقةَ حتى نصلَ إلى ذاك البيمارستان الضخم، الذي يقومُ على الضفةِ الشرقية من نهرِ دجلةَ الأزرق.

هل ترى ذاك الرجلَ المربوعَ القامةِ ذا اللحيةِ القصيرةِ والنظرةِ الساهمة؟ ذاك الذي يمشي بخطىً متعبة داخل البيمارستان؟ هل عرفته؟ إنه الشيخُ الرئيس حجةُ الطبِ أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا. أنا متأكدٌ أنكّ سمعتَ بهِ من قبل. هو لا يزالُ في منتصفِ العمرِ -آنذاك-، ولكنّ صيته قد شاعَ و ذاع، حتى ترأسَ بيمارستانَ بغدادَ الكبير، وأصبحَ قبلةً لطلاب الطبِ والمرضى المكروبين.

لم أمشِ بك كل هذه المسافة، وأعبر بِك حدودَ المعقولِ لمجردِ أن ترى الشيخ الرئيسَ في شبابهِ في بغداد، وإنما أريدُ أن أريكَ ذاك الصبيَّ الصغير الذي ألتقى به ابنُ سينا ذاتَ صباح وتحدثَ معَه. اتبعنى..


-1-
توقفَ ابنُ سينا أمام غرفةِ العزل. داخلَ الغرفة، كانتْ ترقدُ امرأةٌ عليلة من أشرافِ مكةَ مصابةٌ بالسّل. مضى على وصولِ المرأةِ شهرٌ كامل، حينما أتى بها أخاها وتركها داخلَ البيمارستان برفقةِ ابنها الصغير، وقفلَ راجعاً إلى الحجاز. كانت آنذاك تعاني من حمىً مرتفعة وسعالٍ شديدٍ متقطّع. أما الآن، فقد ذبلَ جسمُها وشحُب وجهها كالزهرةِ من دونِ ماء، واصطبغ البلغمُ الخارجُ من فمِها بحمرةٍ قانية. قرعَ ابنُ سينا الباب برفقٍ ثمَ دخل..

"السلام عليكِ يا أمَ مَعن."

"وعليكَ السلام ورحمة الله يا بنّي" أجابت بصوتٍ مبحوحٍ متقطّع.

ابتسم ابنُ سينا بود، وهو يلحظُ صوتَ سعالِها العنيف والدمَ الذي يصبغ طرفَ حشيتِها المفروشة في أقصى الغرفة.

"كيف كانت ليلتُك؟" سألها ابنُ سينا، منحنياً فوقَ معصمِها ليتحسسَ نبضَه.

"كسابقاتِها.. نوباتٌ من السعالِ الذي لا يتوقف."

"هل استطعتي النوم؟"

"نمتُ و الحمدلله.. ولكني أريد أن أشتكي ولدي لديك."

التفتَ ابنُ سينا ناحيةَ الصبي الجالسِ في الطرف الآخر من الغرفة، والذي كان يصغي إلى حديثِهما بإنصاتٍ واهتمامٍ واضحين. كان الصبيّ لا يتجاوز الثامنة من عمرِه، ويلبسُ ثوباً أزرقاً فضفاضاً. ابتسمَ ابنُ سينا وسأله:

"لماذا تريدُ أمُك أن تشتكيكَ يا مَعن؟"

هزَّ الصبي كتفيه بعجبٍ، وابتسمَ ابتسامةً حلوةً لم يملك ابنُ سينا إلا أن يردّها بمثلِها. ارتفعَ صوتُ الأم من وراءِ ابن سينا:

"لأنه لا ينام"

"لا ينام! حسبتُ أنّ أمكَ هي التي لا تستطيع أن تنامَ بسبب سعالِها وليس أنت! ما الذي يمنعكَ من النومِ يا معن؟ هل أنت قلقٌ على أمك؟"

ضحكت الأمُ ضحكةً سرعانَ ما قطعتها نوبةٌ طويلةٌ من السعال الشديد.

"ربما هو قلِقٌ -رغمَ أنَّ صحتي جيدة ولا تستدعي القلقَ- ولكنَّ هذا ليسَ هوَ السببُ الحقيقي الذي يمنعه من النوم."

"ما هو السببُ إذن؟"

"ألا تخبرُ الطبيبَ عن سببِ امتناعِك عن النومِ يا معن؟"

"أريدُ أن أرى النوم" أجاب الفتى الصغير منتصباً على قدميه.

"ترى النوم!"

هزَّ الفتى رأسهُ موافقاً.

"أعذر جهلي ولكني لم أفهم تماماً.. كيفَ تريدُ أن ترى النوم؟"

"هل تعرف أيها الطبيبُ كيف ننام؟"

عقدَ ابنُ سينا يديه وراءَ ظهرِه وتغضّنت جبهتهُ بالتجاعيدِ التي تعلوها حينما يثيرُ أمرٌ اهتمامِه..

"لا.. لا أعرف. هناكَ كثيرٌ من العلماءِ والفلاسفة تسائلوا عن سرِ النوم دونَ أن يخلصوا إلى إجابة!"

"ذلكَ أنهم لم يصبروا حتى يرَوا النوم." همسَ الصبي بحماسةٍ وكأنه يفضي بسرٍ مقدس.

"لا زلتُ لا أفهم!"

"النومُ يأتي إلينا بخطىً خفيفة. يتسللُ برشاقةٍ دونَ أن يصدرَ صوتاً. بمجردِ أن يدهمَ الدارَ أو يقفزَ عبرَ النافذةِ نحسُّ بنعاسٍ شديدٍ ونغمضُ أعيننا حتى قبلَ أن يدخلَ غرفتنَا. لو أنَّ أحداً استطاعَ أن يقاومَ النعاس، لو أنهُ بقيَ مفتوحَ العينين في تلكَ اللحظةِ التي يغمضُ الباقونَ فيها أعيُنَهم، لرأى النومَ يتسلل وسطَ الغرفة."

"وهل سبقَ لكَ أن رأيتَ النوم؟"

"لا.. فهوَ في كلِ ليلةٍ يهزمني، ويرسلني في سباتٍ عميق قبلَ أن أراه. ولكن لا بدَّ لي أن أهزمَه."

ابتسمَ ابنُ سينا بتعجبٍ وأخذَ يدعكُ جبينَه المتغضِن.

"لا تستهن به. فكما يضعُ الأحلامَ في عقولِنا، هو يستطيعُ أن يقرأ أفكارنا. لا بدَّ أنه علمَ بنيتِك المبيتّة، فصارَ يتريثُ عندَ بابِ غرفتِك حتى يسمعَ شخيرَك قبلَ أن تدخل."

اتسعت عينا الصبيّ في دهشةٍ وهتفَ قائلاً:

"لم يخطر هذا الشئ ببالي مسبقاً. سوفَ أخدعهُ هذه الليلة وأشخر متظاهراً بالنومِ حتى يدخل."

صرخت الأمُ في احتجاج:

"ما هذا يا أبا عليّ؟ قد اشتكيتُ لك لتساعدَني ضدَه، فإذا بكَ تشاركُه جنونَه!"

"ولدكِ نابغةٌ يا أمَ معن. حقَّ لكِ أن تفخري به."

ابتسمت الأمُ بفخرٍ و تناولت العقار الذي أعدهُ لها ابن سينا من مزيجِ العسلِ والورد.


-2-
استيقظَ ابنُ سينا على صوتِ طرقٍ عنيفٍ يهزُّ بابَه. قفزَ سريعاً من مرقدِه وتناولَ جلبابَه ولبسَه. فتحَ ابنُ سينا البابَ ليجدَ عبدَالرحمنِ -أحد طلابِه- يلهثُ خلفَ البابِ وصدرُه الهزيلُ يعلو ويهبط. وضع ابنُ سينا يدَه اليمنى على كتفِ الشابِ المذعورِ وسأله:

"ماذا جرى؟"

أجابَ عبدُالرحمن بنفسٍ متقطع:

"المرأة الحجازيةُ المصابةُ بالسل تلفظُ أنفاسَها."

جرى ابنُ سينا بجلبابهِ الواسعِ ورأسهِ المكشوفةِ بأقصى سرعتِه قاصداً غرفةَ العزل. لا.. ليسَ أم معن، ليسَ أم معن. كيفَ تموتُ غريبةً، بعيدةً عن أهلِها، وحيدةً إلا من ولدِها الصغير؟ والولد.. ماذا عن الولد؟

حاولَ ابنُ سينا طردَ هذه الأفكار، والتي طالما حذرهُ أساتذتهُ منها حينما تعلمَ في بخارى. لا تفكر في شخصِ المريض أو مقدارِ حزنِك لأجله. فكر في جسدِه، نبضِ قلبه، سرعةِ أنفاسِه..

"ما الذي جرى بالضبط؟" سأل ابنُ سينا عبدَالرحمن الذي كان يعدو بجوارِه.

"أفقنا على صوتِ سعالٍ شديد، وإذا بأمِ معنٍ تلفظُ كميةً هائلةً من الدم ثم تفقد الوعي."

وصلَ ابنُ سينا إلى الغرفة المشرعةِ الباب، ليفاجأَ بالمنظرِ البشعِ أمامَه. كانت بحيرةٌ من الدمِ اللزجِ تملأ أرضية الغرفة وقد أخذت تسبحُ فوقَها قطعٌ سوداءَ من الدمِ المتخثر. وسطَ بحيرةِ الدم، كانت أمُ معن ترقد ممددةً بلا حراك. صرخَ ابن سينا في عبدالرحمن:

"ارفع رجليها إلى الأعلى."

خاضَ عبدُالرحمن بحذرٍ وسطَ الدم ليرفعَ رجلي المرأة الباردتين. انحنى ابنُ سينا فوقَها، ووضعَ اصبعيه الوسطى والسبابة فوقَ عنقِها. لم يكن هناكَ نبض.

تناولَ ابنُ سينا خرقةً مبللة من وعاءِ ماءٍ قريب، ومسحَ وجهها. كانت عيناها الجاحظتان تنظرانِ إلى الأعلى. أغلقَ ابنُ سينا العينين، بينما أنزل عبدُالرحمن قدمي المرأة المتوفاة في رفقٍ وحِرص. أغمضَ ابنُ سينا عينيه في ألمٍ وأخذ نفساً عميقاً. عندَها تذكرَ الشئ الذي غفلَ عنه منذ دخولِه. نظر إلى الركنِ البعيد في أقصى الغرفة، ليجدَ الصبي الصغيرَ منزوياً هناك، وقد أخذ ينظر إلى الدمِ الأسودِ وعيناهُ يملأهما الذعر.


-3-
يختلفُ الألمُ عندما يصيبُ الصغارَ عن الألمِ الذي يحيقُ بالكبار. الكبارُ غالباً ما يتألمونَ لخوفِهم من مجئِ هذا الألم، لقلقِهم من تذوقِ تلكَ الغصّة المريرةِ التي يعهدونها، ومعاودةِ تلك التجربة المرهقة الطويلة التي يهابونها. أما الصغار.. فهم يقفونَ كالسنابلِ المشرعَة في وجهِ الريح، غيرَ متحرزين ولا حذرين، ليجتاحَ الألمُ الحقيقي روحَهم، ويعذبهم دونَ أن يدركوا كنهَه وحقيقته.

مضت خمسُ ساعاتٍ دونَ أن يحرّك معنٌ عضلةً واحدة، أو يتزحزحَ قيد أنملةٍ من الركنِ القصيّ في الغرفة الذي انطوى فيه. رأى بعينيه أمَه تلفظُ أنفاسَها، ليأتيَ الطبيبُ ومن معَه ويلفونها ثم يخرجونها من الغرفة. ثمَّ أتت امرأة عجوز مسحت أرضيةَ الغرفة، وأزالت البحيرة الحمراء التي تدفقت من فمِ أمه. حاولوا مراراً وتكراراً أن يتحدثوا معه، أن يخرجوه من الغرفة دون جدوى. لم يصرخ. لم يبكي. كان ينزوي في ذاك الركن بلا حراك، وقد طوى ركبتيه قربَ صدرِه، وأخذ ينظر بسهومٍ في فضاء الغرفة. عندما حاولوا إخراجه من الغرفةِ رغماً عنه، منعهم الرجل الملتحي المربوع القامة.

كان عقله فضاءً فارغاً إلا من صورٍ تتدافعُ داخلَه بينَ لحظةٍ وأخرى. كانت عيناه مفتوحتانِ إلى درجةِ الإيلام. كم يتمنى لو ينام هذه الليلة.. هذه الليلة فقط. لو يغلق عينيه ليستيقظ في الصباحِ ويجدَ أمه ترقدُ بجانبهِ كالمعتاد. تضمّه حين يلجأ إليها. تبتسم له حين يقبلُ رأسها. ماذا حصلَ لها؟ أين ذهبت؟ هل ماتت؟ ماذا يجبُ أن يفعل؟ أين يذهب في هذه المدينة الكبيرة الغريبة التي لا يعرفُ فيها أحداً يلجأ إليه؟

أخذتِ الأفكارُ والصورُ تتداخلُ وتختلطُ في عقلِه. ابتسمَ ابتسامةَ اليائسِ الذي أدركه الفرجُ أخيراً. إنه النوم. ها هوَ قد جاء. لن يقاومَه هذه المرة. لن يحاولَ أن يراه. سوفَ يهبُ نفسَه إليه بكلِ حبٍ، بكلِ شوقٍ، برضىً واستسلام، علّهُ أن يحتضنَهُ.. أن ينقذَه من هذا الشعور المرّ الغريب الذي يملأ روحَه ويأرّقه.

تعالَ أيّها النوم.. تعالَ ولا تخشى شيئاً، فها أنا أغمضُ عينيَّ برضىً، مستجدياً، مستعطفاً قدومَك المبارك. تعالَ واحضنّي كما اعتادت أمي أن تحضنني..

بقيَ مغمضاً عينيهِ لبرهةٍ من الوقتِ دونَ أن يحسَ ذاك الخدرَ الدافئَ المعتاد يسري في جسدِه. فتحَ عينيه مختبراً.. وعندَها رآه!

كانَ يقفُ وسطَ الغرفة، فوقَه مباشرة. كانَ يتلفعُ بعباءةٍ سوداء ينسابُ لونُها ليتداخلَ معَ لونِ الظلامِ المحيط به. لم يكن هناك أيّ صوتٍ ينبعث لخطواتهِ أو أنفاسِه. كان ينظر في عينيه.. مباشرة.

"هل أنتَ النوم؟" سألَه معن.

"أنا النوم."

ابتسمَ معنٌ وأحنى رأسه بمراراة. كان يتمنى طوالَ حياتِه أن يرى النوم. كان يعاندُ أمه ويغضبها، ويظل لساعاتٍ سهراناً أملاً في رؤيةِ هذا الشئ المتدثر بالسواد. والآن -حينما أراد من كل قلبهِ أن ينامَ ليهربَ من ألمِه- إذا بهذا الشئ الغريب يظهر أمامَه ويقفُ فوقَه!

"لماذا لم أنمْ إذن؟"

"لأني أريدُ أن أريكَ شيئاً."

"ماهوَ؟"

"تعالَ معي."

مدَّ النومُ يدَه الكبيرةَ إلى معنٍ فتناولها. أحس بالدفءِ حينَ ضغطت يدُ النومِ الواثقة على يدِه. نهضَ على قدميه وأخذ يسير بجانبِ النوم. هل هذا الذي يحدثُ حلمٌ أم حقيقة؟

"ألا تخشى أن يرانا أحد؟" سأل معنٌ النوم.

"لماذا أخشى ذلك؟ هل نسيتَ أنّه لا يمكنُ لأحدٍ أن يرانا؟"

"كيف ذلك؟"

"انتظر وسترى."

كانَ هناكَ رجلٌ يجلسُ على بوابةِ البيمارستان الضخمة. بمجردِ أن دخلا الممرَ المؤدي إلى البوابة، تمطّى الرجل وتثاءبَ تثاؤبةً طويلة. رفعَ النومُ يدَه ونفخ ببطءٍ باتجاهِ البوابة. مالت عنقُ الحارسِ على كتفِه. أخذ معنٌ ينظرُ مبهوراً إلى الحارسِ وهمس:

"هل نام؟"

"تأكّد بنفسِك حينما نعبر البوابة."

كانَ الحارسُ يغطُ في نومٍ عميق فوقَ مقعدِه -وقد ابتسم بلذةٍ وارتخى جسُده- حينما مرّا بجانبِه. لفحت معن نسمةُ هواءٍ باردة حينما وقفا خارجَ البيمارستان وسطَ تلك الليلة الغريبة. تساءل معن:

"أين نحنُ ذاهبون؟"

"إلى الجسر الكبير الذي يربط الجانب الشرقي بمحلة الرصافة."

"ولماذا نحنُ ذاهبون هناك؟"

"سوفَ ترى"

أجابَ النومُ باقتضابٍ وأكمل مسيرَه. انحرفا سويةً إلى اليمين ليدخلا زقاقاً ضيقاً يوصل إلى ضفة دجلةَ الشرقية والجسر الكبير. كانَ هناكَ شحاذانِ يتشاجرانِ وسطَ الزقاقِ في تلك الساعة المتأخرة من الليل. ابتلع معنٌ ريقه بصعوبة وهو يقتربُ منهما بصحبةِ النوم. التفتَ الرجلانِ ناحيتهما حينما قارباهما، ليرفعَ النومُ إصبعه السوادء ويلمسَ جبهة أحد الشحاذين. أغمض الشحاذ عينيه مباشرةً وسقطَ فوقَ أرضِ الزقاق يغطّ في نومٍ عميق. فتحَ الشحاذ الآخر فمَه ليصرخَ، ولكن النومَ لمسه في حنانٍ على جبهته، ليرسلَه هو الآخر في سباتٍ عميق فوقَ أرض الزقاق الصلبة.

تابعَ معنٌ سيرَه بجانبِ النوم، مخلفاً الشحاذَين خلفه يغطان في نومهما العميق. تناولَ النومُ يدَ معنٍ ثانيةً وضغط عليها في حنان ودفء. حينما انتهيا إلى آخر الزقاق رأى معنٌ مياهَ دجلةَ الفضية وقد التمعت تحتَ ضوءِ البدر. كان المنظر رائعاً لا يمكن وصفه. تساءل معنٌ إن كان هذا حلماً أم حقيقةً؟ خصوصاً بعد أن بدأ يشعر بالخدرِ يسري في قدميه المنهكتين.

أخذا يسيرانِ حتى اعتليا الجسر الكبير وتوقفا في منتصفِه. أشارَ النومُ إلى القمر وقال:

"في كل ليلةٍ، حينما أنتهي من الطوافِ على البيوتِ وأرسل جميع الناسِ إلى النوم.. أصلُ هنا إلى الجسر، وعندَها أتعلقُ بأشعةِ النورِ وأعودُ إلى القمر."

تثاءب معنٌ وهو ينظر إلى البدرِ المكتملِ في السماء.

"هل ستذهبُ الآنَ إلى القمر؟"

"نعم.. ولكن ليسَ قبلَ أن أرسلكَ إلى النوم أنت أيضاً. لقد جئتُ بك هنا لأخبركَ عن سر القمر. القمر لا يعكسُ أشعةَ الشمس، وإنما هو يعكسُ نورَ تلك الأرواحِ الطاهرة التي توفيت وستصعدُ بإذن الله إلى الجنة..."

بدأت كلمات النومِ تتداخل، وأخذ الخدرُ يتسلقُ جسدَ معنٍ ويسري في كافةِ أعضاءه.

".. هذه الليلة، اكتمل القمرُ بدراً لأنّ روحاً طاهرة -تفوقُ كلَ الأرواحِ نوراً- توفيت. هذه الروح هي روحُ أمك رحمها الله. عندما أصلُ إلى القمر، سوفَ أخبرها كم كنتَ شجاعاً وعظيماً هذه الليلة. سوفَ أخبرها أنك لم تذرف دمعةً واحدةً، وكم أنت تحبها كما هي تحبك تماماً."

ابتسمَ معنٌ في تعبٍ وسعادة. انحنى النومُ على جبينِه وقبلّه ببطء. وعندَها.. أغمضَ معنٌ عينيه ونام.


-4-
وكما تنتهي كلُ رحلةٍ، تنتهي رحلتنا.. فتعالَ لنرجعَ سوياً ونتركَ الصبيَّ -الذي رأى النومَ- نائماً وحدَه لأولِ مرةٍ، في طريقه الشاقِ والطويل نحوَ الحقيقةِ التي لا تُدرك. تعالَ لنغادر بوابةَ البيمارستان متجهين إلى الجسر الكبير، ولكَ الخيار في أن تنظرَ أو لا تنظرَ إلى آخر الزقاق. فهناكَ سوفَ تجدُ الشيخَ الرئيس -ابن سينا- ينزعُ عباءتَه السوداء، ويهبُ الشحاذَين بعضاً من الدراهمٍ مقابلَ امتثالهما لما أمرهما به.

 

عبدالعزيز رشيد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2009, 09:34 PM   #31
عبدالعزيز رشيد
( شاعر وكاتب )

الصورة الرمزية عبدالعزيز رشيد

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2213

عبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز رشيد لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي *


عدي الحربش أو "علي الزيبق" كما يسمّي نفسه بالمنتديات أصدر مؤخّرا كتابه (حكاية الطفل الذي استطاع أن يرى النوم) بحقّ أشكر تلك اللحظة التي قادتني إلى هذا الكتاب واقتنائه أنصح الجميع به ماأجمل\أمتع اللحظات التي أقضيها معه أغبط كلّ من استطاع التعرّف على كتاباته باكرا جميل جميل وأكثر وربّي

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

 

عبدالعزيز رشيد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 07-04-2009, 03:27 AM   #32
وشـــاح
( كاتبة )

الصورة الرمزية وشـــاح

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 18

وشـــاح غير متواجد حاليا

افتراضي عبدالعزيز الراشدي - زقاقُ الموتى



في زقاق الموتى أرتعد كلما تبدى بياض. كنتُ سيد أحلامي ،لكنها أحيانا ترهقني وأنا أمر مستندا إلى جدار الزقاق. تتحرك الكائنات في الزقاق وفي مخيلتي فترتعش ساقاي. آه يا بياض طفولتي، كل شيء في زقاق الموتى في حلكة الليل أبيض، حتى وأنا أغمض عيني وأركض تظل الأشياء حليبية تتراقص في غنج ..

وفي بياض النهار، حين تطلع الشمس الحارقة، أركض نحو الزقاق لا يُدركني خوف .. أتحسس الجدار، وأؤكد التفاصيل كي لا تملأني الرهبة ليلَا .. وأسخر من نفسي ولا أتجرأ على إخبار الأصدقاء، أقول: ليست سوى خدوش هذه، وتلك بُلغة مهترئة، وفي اليسار نخيلة لا تنمو ، ثم كيف تُفزعني هذه المسافة القصيرة؟ .. أسجل المكان وأهله بدقة، لكنني بالليل أنسى كل شيء، ولا تعود تراودني غير أحلامي، وقصص الذين سكتوا مرة واحدة، ولم ينطقوا لأنهم رأوا ما هو في علم الغيب، أو ماتوا بحسرتهم. أتذكر القبر والظلمة والملكين ومطرقة النكير فأسمع الهمهمات، وأُسرع فيسرع معي من يتعقب الخطى .. ثمّة امرأة وجدوها في الزقاق ميتة، على صدرها خدوش حادة، والذباب الأزرق يصنع الولائم حول الدم المتخثر .. و -أمي رحمة- المرأة الحنون محنية الظهر تدفع بالأطفال نحو الدنيا وجدوها بالزقاق ميتة, و بسمة الطفلة الصغيرة، كانت تجري فسقطت هناك في زقاق الموتى .. رَشّوا الحليب في كل مكان تحركت فيه, حيث تلعب، حيت تركض، حيث تخرج لسانها الصغير لنا، وتكشف عن مؤخرتها نكاية بنا .. ما عُدتُ أستطيع شرب الحليب لأنه يذكرني بجسمها الرخو .. وحين يمر الموتى إلى مثواهم لا يمرون كرامًا، بل يظلون في خيالي .. يتسامرون، يقهقهون، يلعبون، يصمتون أحيانا لأن الكلام انتهى، ينظرون بحزن إلى الحدود القصوى لمملكتهم .. ثم أخرج عند المساء و أركض، كي لا يمسكني الموتى، وألتفت فلا أرى سوى الظلام، لكن العيون تظل ترقبني ما إن أسير .. وإيقاع قلبي يعزف وأقرأ قصار السور، ثم أرى أبي يدخل الدار لأن بيتنا في آخر الزقاق وأصيح به كي يترك الباب مفتوحًا لكنه لا يسمعني .. يُقفل الباب ويضع الرتاج وخشبة الأمان .. وألحق الباب لاهثًا، أطرق أطرق بكل القوة، والأعين تترصدني، الأعين الميتة المخيفة الحزينة البريئة، تلك الأعين التي أتحداها في الصباح، وأقول اظهري، ولا أجرؤ وقت الليل والغمام لأنها ترد الصاع صاعين ..

وأفكر في الحياة العنيدة، وفي جارتنا كثيفة الشعر على الوجه كرجل، مكتنـزة الشفاه كأنما تتأهب للكلام باستمرار.. تجلس في الزقاق طوال اليوم تعد الموتى، على الأرجح، ولا تموت .. لكنها اختفت في يوم وقالوا وقالوا وبحثوا في كل مكان ثم شموا الرائحة ..

وقد جرى في الزقاق -بعد موت مكتنزة الشفاه-، أن شيّعها الناس بعد العصر ووضعوا على قبرها الشوك .. وزعت النساء علينا خبزا حارا بالفلفل، ثم اجتمع الأطفال بدوني، يتدارسون أمورا حسبتها خطيرة .. تدافعوا نحو بيتها، وكنت في أعقابهم .. دخلتُ فخرجوا و أغلقوا الباب دوني .. ها إني أصبحت وحيدا مع كل أشيائها, مع صورتها التي لا تُفارِق وأقول ستظهر الآن لتقترب ببطء وتطوقني بلحمها البارد ..

آه أيتها الأحصنة المالحة في حلقي، يا هذا الجفاف في مياه الروح، وهذا العرق المتفصد، وهذه العزلة الفائضة .. أتخيل موتي، أتخيل الكلاب في المقبرة تنبح: هوهوهو، والذئاب تعوي: عوعوعو، والموتى يتذمرون بأصوات لا أجيدها: حمممم حممم حمم .. وأنا أحلم بالأصوات ذاتها، شهرين متتاليين وأنا أحلم، والمرأة مكتنزة الشفاه تطير خفيفة حول فراشي، لا تفعل بي شيئا، لكنها تسلخ وجهها ثم تعيده، تنصحني بأكل النبق و تسألني عن بعض القلائد التي سرق الأطفال وتقول: طَمْئِنْ أهلي, أنا هنا مرتاحة ..

ولقد مر بعدها بالزقاق رجل لم يغطوا وجهه، وكنت بالسطح، فبانت عيناه البيضاوان .. ظل البياض يغزوني ويحرك في شهوة البكاء .. أراهن الآن أني كئيب للسبب ذاته، كوني تطلعت وأمعنتُ وكدت أسقط لو لم تمسكتني يد .. يدُ من يا ترى؟ يدُ من؟ ..

تراب المزارات لم ينفعني، وأمي مَلّت، لذلك تركَتْني حتى كبرت ُوشختُ، وعاد البياض قريبا مني، لكنه مُرعب على الدوام، ثم حانت ساعتي، فجاءت المرأة التي كانت تتأهب، كما يحدث في الأفلام على الدوام، حين يغادر الجسد ذاته ولا يذهب بعيدا لأن كل شيء يخترق صلابته، وجاء الرجل الذي كان يُصلح لنا الكهرباء، يمسك الأسلاك ولا يتأذى، ويسأله أبي فيقول:
-الكهرباء صديقي .. ويقهقه ..

جاءت المرأة فَقَدّتْ مني شبحا ومضت .. الشبح مني الآن وأنا منه .. لكنه لا يفهمني .. يظل طوال اليوم يفرضُ رغائب قارسة .. يتجول في الزقاق وأنا لم أتكيف مع ليله بعد، يلاعب الكائنات التي ماتت، وأنا أخشاها .. ثم آلف .. الوجود فكرة مبهمة، والزمن يوضح كل شيء .. أرى في الزمان ذاته، والأمكنة الغامضة اللزجة، الفتاة الصغيرة وقد كبرت .. ما عادَتْ تأبه الآن لمقالب أحد .. تسير مرفوعة الرأس بجناحين يغطيان القليل، ولا يكشفان طراوة الجسد و الدنيا .. وأظل رفقة الشبح طوال الوقت، بنفس الزقاق، ثم نبدأ في اختصار المسافة، رفيقين هذه المرة، فقد تعودنا على بعضنا ..

نسير متفقدين الأحوال كدورية الشرطة، دون سلاح أو حزام, تبدو الأمور عادية.. يتوافد المزيد من الأشباح, لكن لا يظهر أبي في نهاية الزقاق ليغلق الباب دوني .. وأجاهد كي أرسم صورته القديمة، لكنها تتسامى .. ويتراكم الغبار حول الشجيرة الصغيرة، ولا يعود الشبح يشبهني فجأة، لأنه ملَّ السير والزمن لايتوقف .. ثم أرجع قليلا إلى الوراء، إلى الشباب لأتوازن و أصنع ما فاتني .. أُصبحُ أبًا، لكن ابني لا ينتظر كي أغلق الباب دونه .. هو يغلق الباب دوني ويسخر.. وأحاول جاهدا الابتسام في وجهه .. وأعرف أن الحياة بالضبط هي زقاق الموتى .. الحياة التي يَنْزَرِعُ الموت في كل مكان فيها .. الحياة التي تَنْزع أضراس الناس بكُلّابِها .. ثم أعود إلى الطفولة هذه المرة، في زقاق الموتى كي أهنأ قليلا .. لا يهنأ جسدي لأن الزقاق دوما كالسابق ..

وأسير في الزقاق وحيدا، كما الماضي، أخاف فأركض لأغادره .. أظل أركض .. هناك من يتعقبني .. وقبل أن أنحرف إلى حيث منزلنا، حيث الخلاص، تصطدم رجلاي بشيء ثقيل فأتدحرج.


:


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
* عبدالعزيز الراشدي / زقاق الموتى من كتابهِ اللوحة "وجعُ الرمال"

 

التوقيع

وذا الماء مائي
وذا اليبْس يبْسي *

وشـــاح غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:19 PM

الآراء المنشورة في هذا المنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.