لا أعرف الكثير عن طفولة أبي
في الحقيقة لا أعرف أي شيء سوى بعض الصور القديمة التي نستعرضها من وقت لآخر
تمتلك عمتي الكبرى جهاز عرض صور قديم جداً
من ذاك النوع الذي يحول الصور من شرائح شفافة إلى صور منعكسة على الجدار
كانت أسعد لحظات حياتي هي عندما تجتمع كل العائلة
وتستجيب عمتي لتوسلاتي المتكررة بأن تعرض علينا صوراً جديدة
في الصور كان أبي يرتدي ملابس جميلة ومواكبة للموضة دائماً
وكانت جدتي تشبه سعاد حسني تماماً
كانت في كل الصور ترتدي فستاناً قصيراً إلى الركبة وحجاباً صغيراً تربطه بطريقة تجعها تشبه ممثلات السينما المصرية
ورثت عنها عظمات وجنتيها الجميلتين، أكثر ما يميز وجهي...
تقول أمي بأن جدتي كانت خياطة ماهرة، وامرأة ذات ذوق عال جداً
عندما ولد أبي كانت جدتي تبلغ من العمر 22 عاماً تقريباً، أو أصغر ربما
أبي هو الثالث بعد ابنتين اثنتين، وهو الصبي الأول
يحترمه الجميع، وكلمته نافذة، وهو حنون جداً مع إخوته الصغار، وشقي أيضاً
رغم تمرده الشديد، أبي بار جداً بوالديه
ولديه الاستعداد الكامل للانصياع لكل أوامر أبيه حتى لو لم تكن منطقية
لم لتكن لديه خيارات كثيرة في الحياة، ولم يحصل على فرص أصلاً
لم يهتم أي أحد بأحلامه الخاصة ولا برغباته
عاش أبي حياة روتينية بعد أن تزوج من أمي وأنجبنا
وصار خال من الطموح، يعيش فقط، هكذا بلا هدف وبلا رؤية حقيقية للتطور للأعلى
لذلك أصبح يسخر من أحلامنا، نحن أبناؤه، ويحطمها واحدة بعد الأخرى
خصوصاً إذا لم تندرج هذه الأحلام تحت المسار الذي رسمه لنا مسبقاً
لكن عاطفته كبيرة جداً
لا نستوعبها، وأحياناً نمل منها لأنها غير منطقية بالنسبة لنا
ورغم ذلك كان أبي يجتهد في إظهارها
يعرف ألواننا المفضلة، وفواكهنا المفضلة، وهواياتنا
يعرف الأشياء الأساسية عنا ولو ادعى عكس ذلك
وكان عندما يشتري لنا الهدايا يتأكد من أننا سنحبها كثيراً
ولم يفشل في ذلك أبداً
يفرق أبي في تربيته بين الولد والبنت
ويمنح الولد أحقية التصرف في المنزل بين أخواته حتى لو كان صغيراً في العمر
الشيء الذي خلق العديد من النزاعات بيني وبين أخي الأصغر عندما بدأت مراهقته
لكن بعد أن أصبح في السابعة عشرة من عمره، تعقل في تعامله معنا وصار أقل جنوناً من الإخوة الآخرين الذين يكبرون في العوائل الأخرى
ربما بسبب تربية أمي لنا، والتي تقوم على أساس حق الاختيار طالما هذا الاختيار لا يضر بسمعتنا
لم يتدخل أبي في تربيتنا إلا قليلاً جداً
كان يقول دائماً بأنه لا يهتم بدراسة البنات، وأننا بعد المرحلة الثانوية سنترك الدراسة
وكانت مزحاته الغبية في هذا الخصوص، إذا كنا سنعتبرها مزحة، تضايقني وتحبطني جداً
لكني الآن اكتشفت أنها طريقة أبي في تحفيزنا للحصول على درجات أعلى وأفضل
لأنه لم يكن يستخدم هذه العبارات إلا في حالة واحدة، عندما تقل درجاتنا عن المستوى
طريقة أبي في السخرية من إنجازاتنا التي سنكتشف لاحقاً أنه فخور بها في الحقيقة،
كانت تثير غضبي، وكنت أشعر أنه يغار من نجاحي لأنه فاشل في الحقيقة،
مشاعري هذه كانت تزداد عنفاً عندما يحبط أبي خطة من خططي
أو يمنعني من تحقيق هدف كنت أريد الوصول إليه فقط لأنه يعتقد بأن هدفي تافه بالنسبة له!
وبذلك كبرت وأنا أعتقد أن كل ما آحاول تحقيقه تافه في الحقيقة
وتخليت عن الكثير من رغباتي وطموحاتي مقابل تحقيق أغراض الآخرين
الشيء الذي سيفقدني ثقتي بكل ما أفعل... كل شيء
في المستقبل، سينفجر أبي
وسيصل لمرحلة غريبة من الإحباط والتمرد
للدرجة التي سأصل معها لمرحلة الكراهية المطلقة له، ولوجوده في حياتي
وسأعامله كند، وسأحاول أن أكون أفضل منه في كل ما أفعل
ستتحول كل تصرفاتي إلى تحديات
وستكون حياتي في بيته مستحيلة... مستحيلة تماماً