ربمـا ستّة شهورٍ أو يزيدْ ،
ليسَ مهماً الوقتُ التي تقتضيهِ الاوجاعُ بالخفوتِ إنمـا الوقتُ الواجبِ إنتظارهِ لإستنطاقِ القلمْ ،
هكذا بدأت حكاية الكتابة منذ الانسان الاول ، فقد انتظر عقوداً كثيرةً قبيلَ التجرؤِ على رسمِ خربشتهِ الاولى ،
والتي في الغالبِ كانتْ رسوماً لألدّ أعدائه . فليسَ غريباً أن يستفزنـي قلمٌ وتغرينـي ورقة كي أكتبَ - ولو خربشةً - كتابتـي الاولى ،
ولكي أكونَ صريحاً أيضاً ، فإن عدّة أسبابٍ ومؤامراتٍ رتّبت ومهدّت لهذا النزف من بعدِ فترةِ عبوديّة للوجعْ .
لأنني من محبـي التفاصيلِ الصغيرة في كلّ شيء
دائماً ما أجدُ صعوبةً في ترويضِ الأحداثِ من حولي ،
فالإحاطة بالأحداثِ الصغيرة دونَ النظرِ الى ظلالهـا وآثارهـا المواربة تغيظنـي حدّ القلقْ ،
وتخيفنـي حدّ الإرتجافِ أيضاً ، والامرُ دوماً يقفُ على حدّ اللامبالاة أو حدّ الإمعانِ في الإهتمام ،
لذا فإن كانَ أمراً يهمّنـي كثيراً أو لا يهمّ البتّة فردةُ الفعلِ واحدة لديّ : التفاصيلُ الصغيرة.
ولأننـي - كما أسلفتُ - ممعناً في التفاصيلِ حتّى لا أكادُ أرى أيّ شيءٍ آخرْ ،
أتعبتنـي في الدنيا دقّاتُ عقربِ الثوانيْ ،
ولستُ مهمتاً - نهائياً - بدخولنـا منذ أيام عاماً آخرْ ، وأقولُ دوماً كما يقولُ أهلُ النارْ ( فإسأل العادّينْ ) .
وتبدأُ القصّة :
(لنْ أرحلْ) 3/8/1999
" طوالَ سبعةَ عشرَ عاماً "
هكذا كُتبَ على الدفترِِ القديمْ ، /
(لكـي لا أعودْ) 1999
قصيدةٌ أخرى ، او ربما تكون خربشاتْ
....
لا أعرفُ السببَ الحقيقيّ وراءَ إمساكي بهذا الدفتر عن سائرِ ما تحتويهِ الحقيبة ( حقيبة التاريخِ لديّ ) !
هناكَ ما يقاربُ عشرونَ هديّة من أناسٍ كثر ، ولأعيادِ ميلادٍ متفرقة ،
وهناك مثلُها من الكتبِ الموقعّة من شعرائهـا أو قاصّيهـا وهناكَ صورُ وتذكارات من رحلاتِ دمشقِ والقاهرة ،
وهناكَ طبعاً أشلاءُ ياسمينْ ، وأجملُ ما في العمرِ في عصرِ نائيةٍ وعائدة.
ولكنْ ،
ما همّنـي غيرَ الدفترِ الموشحِ بكلماتْ ( اشترى هذا الدفتر أبي في أول أيام الثانوية العامّة ) بلغتها الركيكة البريئة ، أو لنقلْ بلغتها المناسبة لزمنـها .
سبعةَ عشرَ عاماً ،
كنتُ غضّاً وبريئاً من أيّ قصّة ( حيثُ ياسمين لم تأتِ قبيلَ التاسعة عشرْ ) وكنتُ يافعاً قدرَ أنّ الوجعَ آنذاكْ لم يتجاوزْ رحيلَ أمي عنّـا !!!
للقصصِ الموجعة ثغراتٌ غريبة ، وتفاصيلُها أقربُ للنسجِ والتأليفِ منها للحقيقة ،
ويكادُ المتصفحِ للرواياتِ الموجعة او الكتاباتِ السوداوية أن يؤمنَ تمامَ الإيمانِ بكذبِ الوقائعِ أو غشّ الكاتبْ ليستعطفَ القارئ ويجذبهُ نحوَ هاويةِ السوادْ والحزنْ ، كـ "الإيمو".
أعودُ إلى الدفترِِ المسكينْ ،
كانَ معروضاً بينَ إخوانهِ من الدفاترِ التي يعلمُ الله أينَ مآلها الآن ،
مستبشراً بيدٍ تلتقطهُ وتخطّ به شيئاً جميلَ الوقعْ ،
في الحقيقةِ الدفاترُ والقراطيس لها حيائهـا الخاص ، ولها طريقتها بالتعاملِ مع الحبر المسكوبِ ،
وليسَ غريباً على ورقةٍ ما الحملْ ، وريما في حالةِ دفتري كان الحملُ حملاً ضعيفاً فأسقطَ الحزنَ ناقصاً من كلّ شيءْ
وأسقطنـي ماءَ رحمٍ كاملَ الوجعِ ، والزيادة .
3/8/1999 - 21/5/2000
عمرُ دفترٍ للكتابة ، أما عمرهُ الافتراضيّ فكانَ مكتوباً كملاحظةٍ عليه ( لن أفرّط في هذا الدفتر ما حييتْ )
ليتَ فيهِ فرحاً بقدرِ الحزنْ ، أو أنْ ليتَ فيه ما في الأرضِ من فرحٍ وحزنْ ، خليطَ مشاعرٍ ومواقفْ ،
19/1/2010
سأخبركَ أيها الدفترُ الشقيّ أسراراً ، فإحفظها :
مرّت سنيناً عشرْ ،
كنتَ طوالَ عمريَ المقصوصِ أجملُها رغمَ حزنكْ ،
وأنـا ،
ما عدتُ كلاسيكيَّ المنهجِ من بعدكْ ،
فالكتابةُ ما تجاوزتْ ضرباتٍ موسيقيّةٍ على وترِ لوحةٍ سوداءْ ،
لأرى الحزنَ يتشكّلُ ويكتبُ نفسهُ على سطحِ شاشةِ عرضْ عارية كلّ العريّ من الإحساسْ ، صلبةٌ كالصخرِ ، وأيضاً ملوّنـة !
هل أخبركَ اليوم عن ياسمينْ ،
وأنـا الذي لم أشارككَ في عصرهـا فرحـي !
وكنتُ وقحاً إذ أرخّتُ فرحي حينهـا على دفترٍ أهدتهُ لي شقيقتـي الصغرى !
ولم أخبركَ أيضاً بكمّ الوجعِ حينَ غادرتنـي ، كنتَ مملوءَ القلبِ بعامينِ من العمرْ ،
وهل أملكُ أدنـى الأدبِ بأن لا أسردَ عليك قصّة أختَ مجدْ ! وأنتَ البعيدُ عنهـا مسافةَ مائةُ قصيدة ونصّ !
لستُ أرمـي إليكَ بالحديثِ جزافاً وأنتَ الذي تحملتَ اليومَ منّـي دمعاً قلّ ما انسابَ على شيءْ ،
أعتذرُ إليكَ اليومْ ، قد كنتَ مدفوناً ،
نائياً عنّي حدّ التناسي فأيقظتُ فيكَ ذاكرةَ وجعكِ معي ،
وأيقظتَ فـيَّ لعنةُ التأريخِ والكتابة .
دفتري
الموشحُ برسمِ طفلينِ يلعبانِ في شتاءٍ دافئُ الطابعْ ،
مركونٌ كـ كلّ أشيائي بزاويةٍ في غرفةٍ فارغة ،
في حقيبةٍ يملؤهـا الوقتُ والناسْ ،
ليستْ تفارقُ مكانهـا فما أتعبهـا السفرُ ولكنْ : أتعبَهـا الوطنْ !!!
عافاكَ الله منّـي يا دفتـري .
محمد القواسمي
22/1/2010
\