* 2
في عينيها كانت نظرة حائرة ، ملأى بالقلق .. كانت تمشي حافية على الشاطئ تفكر، و تداعب الأمواج قدميها الصغيرتان.
بدأت تغرب الشمس ، توقفت و ابتسمت تراقب روعة المنظر ، و حين بدأ يكتمل احتضان البحر للشمس سمعت صوتا . جفلت،
و التفتت بفزع . أخذت تركض في الاتجاه المعاكس للصوت . لم تكن تعرف مما تهرب ، و هذا كان هاجسها الأكبر : المجهول !!.
تأففت و رميت القلم : ( - لمَ لا أستطيع كتابة قصة ؟!، إني أكتب نصوصا جميلة ، المئات منها ، و إنتاجي يتميز بالغزارة ؛
فلم لا أستطيع كتابة قصة ؟! ). خرجت إلى شرفة منزلي . نظرت إلى القمر ، ابتسمت و نسيت تماما استيائي . نظرت أمامي ،
هناك ، على البعد ، خلف الجبال ؛ يكمن موطني ، و ينتظرني " أنت " . اتكأت بكتفي على حاجز الشرفة ، أفكر بشغف :
أنت .. من أنت ..؟!
لا أعرفك إلا خيال يراودني في أحلك الليالي و أحلاها ..
لا أسمعك إلا في تغريد العصافير ، و خرير الماء ..
و لا أراك إلا في منامي !،
و مسرحي الوحيد إليك هو الخيال ..
كم هو مؤلم ألا ألمس بهجة اكتشافك إلا تخيُّلاً ..
أرسم الأحداث و الأزمان ، و لكني لا أستطيع رسمك ..
كيف أرسم المجهول ..
و أنت أملي ، و حلمي ..
أيها المجهول ..
يا أسطورةٌ ، طفولتي تحملها حتى مماتي ..
و لا تخلدها سوى كلماتي ..
و لا يخطها سوى الأحلام التي تأتيني فيها ..
حي أسمع موسيقى المطر في ليالي السهر ...
* * * *
قاطع أفكاري صوت عميق ، يناديني بتعجب : ( - بثينة ). التفتُّ . فكان القمر يحدثني . لم أصدق عيني . فجأة ارتسمت
له عينان متسعتان مضحكتان ، و أنف دقيق و لكنه كبير بما فيه الكفاية ليتناسب مع حجمه . ناداني مجددا : ( - بثينة ).
وقفت معتدلة ، و ضاقت عيناي و أنا احاول إقناع نفسي بأني أحلم . زمَّ القمر شفتيه ، و قال باستياء : ( - ماهذا الذي
أراه ؟! ، بثينة لا ترد علي !. حسنا ، ما هذا الاستنكار الذي يتفجر من عينيك ؟. ) و شمخ بأنفه و استطرد مستفهما : ( -
أتعجبين من كوني أحدثك ؟! ، هل ترين أنك أعلى مكانا مني ؟!! ) . ظللت صامتة أحاول أن أحلل ما أسمعه بكل المنطق
الذي أملكه ، فما كان مني إلا أن زل لساني قائلا : ( -- كيف أكون أعلى مكانا منك و أنا على الأرض و أنت في الفضاء ؟!).
أمسكت عن الكلام أوبخ نفسي : ( -- تبًّا ، تبًّا . ما الذي أفعله ؟ ، مجددا ، لم أستطع تمالك نفسي حين يخطئ أحد في
التعبير ! ). ضحك القمر : ( - فتاة ذكية . إذًا، أنت تعلمين أنه ليس منطقيا أن تتعالي علي ؟ ). مرة أخرى انطلقت بدون
تفكير : ( و لم سأتعالى عليك ؟ )، وبخت نفسي بشدة : ( تبًّا ، ما هذا ؟ ، إنني حقًا مجنونة . ما الذي يحدث ؟ ، بثينة ،
استيقظي . الآن سأعد إلى الرقم ثلاثة و أفرقع أصبعي و حينها ستستيقظين !. ). عددت و فرقعت و أنا أغمض عيني
بشدة و لم يحدث شيء . سمعت قهقهة بدلا من أن أستيقظ . بدأت أصدق أني لم أكن أحلم . فتحت عيني ببطء متمنية
بيأس أن أجد القمر قد عاد إلى شكله الطبيعي . بدلا من ذلك وجدته يبتسم بجذل . قال لي : ( - لو أنك رأيت كيف بدوت ؟ ،
اخبريني ، لم أغمضت عينيك كأنك تشربين دواءًا مرًّا ؟! ). توقفت لبرهة قبل ان أجيب ، و حين أجبت كنت أزن كلماتي
بدقة : ( -- هل أنت حقيقي ؟، أعني ، هل تستطيع الكلام ؟، و تحدثني أنا من بين الجميع !). لوى شفتيه و نظر إلي من
طرف عينه : ( - بالطبع أنا حقيقي . ألم تشركيني في كثير من قصائدك ؟، هذا هو الذي يجعلني أرغب بالحديث معك !.
لقد أطريتني كثيرا .)، و انتفخت أوداجه بطريقة مضحكة و لكن أيضا بدا عليه الاعتزاز و الفخر . قلت له : ( -- استمع
إلي ، هذا كله كذب ، وهم . سأذهب للنوم . عمت مساءًا ). كان صوته حازما : ( - حقًا ، اهربي إذًا يا بثينة ، و لكن ، إذا
كنت وهما فلمَ ودعتني ؟! كان عليك أن ترحلي فقط ). كنت امشي مبتعدة عن الشرفة و توقفت لدى سماعي ما قاله .
نظرت إليه بغضب ، و اندفعت مسرعة إلى الداخل .
أغلقت باب الشرفة بإحكام ، و أسدلت ستائر المنزل كلها . ذهبت إلى فراشي ، أشعلت الأنوار . قرأت القرآن و نمت
و أنا أردد " لا إله إلا أنت ، سبحانك إني كنت من الظالمين " . لم أطفئ الأنوار في تلك الليلة . كنت اخشى أن يتسلل إلي
شيء من الخيال العجيب مع الظلام .