الفصل الخامس:
"أبي....يا حبيبي رد علي..هل تسمعني"
ثواني قليلة كادت تفتك بـ قلبي..وأنا أنتظر منه إجابة أو حركة تطمئنني.
رفع رأسه بـ ثقل وفتح عينيه وتنهد بـ صعوبة وتمتم بـ كلمات بالكاد فهمتها
"أنا بخير..فقط اشعر بـ دوار وثقل شديد في رأسي"
" ربما لديك هبوط أو ارتفاع في السكر..سـ أجلب لك جهاز الفحص"
حاولت النهوض فـ أمسك بطرف يدي وقال:
" لا أظن ذلك،تعبي إرهاق..أشعر بأني أفضل بـ مجرد أن جلست"
ابتسمت له دون تعليق وسحبت يدي من بين أنامله وأحضرت له جهاز الفحص. وعند اقترابي منه وجدته يضع رأسه بين يديه
وكأنه يحمل هم الدنيا كلها,
"أبي...بـ ربك أحكي لي ماذا بك" سألته وأنا أفحص له نسبة السكر في دمه لـ تكون النتيجة غير مقلقة هناك ارتفاع في
النسبة ولكن لا تصل إلى درجة الخوف والقلق.
" لا شيء يا ابنتي لا تقلقي سـ يكون كل شيء على ما يرام"
" من هو ضيفك يا أبي..أنت غير مرتاح لـ زيارته" سألته وأنا على يقين من هو ضيفه ولكن كنت أتمنى لو يجاوبني بما
يخالف ظنوني حتى أرتاح .
" لا تعرفينه..ثم..............." أراد أن يقول شيئا، لكنه أطبق شفتيه ونظر بعيداً.
قلت:" ثم ماذا؟"
" ثم وإن علمتِ من هو..فـ لن يغير بـ الأمر شيء"
" أي أمر..حديثك أللغاز"
تنهد وقال:
"لست أحمل هم الضيف..بل هم الأمر الذي دعاه لزيارتنا"
سكت وأنا منصتة جيدة له أريد أن ينطق باسم الضيف كان من كان أريد أن أعرف ما وراء هذا الضيف
الذي ضايق والدي بهذه الطريقة.وعيناي تناشده الإسراع في الحديث.
ولم يقطع صمت والدي وحرقة انتظاري سوى جرس الباب.
"الضيف جاء..ساعديني انهض.ولا تنسي القهوة "
مد يده لي وهو لا يريد أن ينظر لعيني.
توجه لـ مجلس الرجال..وغاب عن نظري وأنا أقف كـ البلهاء أستشف من خطواته بقية حديث كنت ارتجيه منه.
جهزت له القهوة وطلبت من الخادمة أن تقوم بـ توصيلها..وراودتني فكرة مجنونة لو أخرج لفناء المنزل واقترب من نافذة
المجلس من الخارج ربما سمعت صوت الضيف ولن يغفل عني صوت أحمد أبداً.
ولكن تداركت الأمر بعقلٍ وخفت أن أجني الويلات من تهوري.وآثرت الذهاب لـ غرفتي
وأنا أؤمن النفس بالصبر فما خفي عني اليوم سأدركه بالغد.
أخذت كتاباً من درجي وأخذت أتصفحه دون أن أدرك حروفه أو حتى عنوانه..أغلقت ووضعته بـ جانبي.
وضعت القليل من الكريم في يدي وأنا أنظر من نافذتي لـ الخارج وكيف الشفق يشق الغيوم بـ خجل وكان اللون البرتقالي
الدارج في السماء يمنح روحي السلام، دهنت يدي ومن ثم مسحته على وجهي فـ لم تعتاد بشرتي على الجو الجاف.ولا أعلم
ربما جفاف الظروف من حولي جعلني متعطشة لـ الراحة والهدوء.وهذا ما أفتقده منذ أن شاهدت أحمد آخر مرة.
تسحرني ملامحه كلما التقي به وكأني انظر إليه لأول مرة:
بشرته السمراء واستدارة شفتيه التي ترسم أجمل ابتسامة،أما عيناه الصغيرتان والتي فيهما حدة نظر فلهما نصيب الأسد من
السحر الذي يخترق قلبي.فأتوقف عن التنفس وينقطع حبل أفكاري.
أجزم بأن أحمد أختلف كثيراً ليس في ملامحه فقط بل حتى في شخصه وتفكيره.هل يا ترى أنا السبب في هذا الاختلاف.يبدو
أكبر من سنه بـ كثير،ورث الملابس وكأنه لا يهتم بهندامه مثل ما كنت اعرفه سابقاً.
كيف كان تأنقه وحرصه أن يبدو أمامي في أفضل هندام.وكيف كانت الغيرة تفتك بمشاعري
كلما رأيت امرأة تنظر له وكيف كان هذا الأمر يربكه بقدر ما يرضي غروره فيّ.
فإن أدرك مدى غضبي أمطرني بوابل من الاهتمام وبـ الحديث المنمق حتى أثق بأني أملك الدنيا كلها بيدي بما فيها أحمد.
وإن تداركت مغزى نظراته لي واغتراره بنفسه أظهرت خلاف مشاعري وكأن الأمر لا يعنيني وفي داخلي أود لو أخفيه عن
عيون كل الناس. فإن تجاهلته أثار حفيظتي أكثر وأكثر.لـ ينتهي لقاءنا أو مشوارنا ذاك بخلاف بيننا يزيد من الشوق والحب
في قلبينا.
ويعود يعدني بأنه سـ يكون مخلص لي مدى الحياة..وأعده بأني سـ أكون متفهمه أكثر في المرات القادمة.
"آه.." خرجت من تجاويف صدري بـ حرقة كادت تصير أضلعي رماداً.
هل يعقل أني أعيش حياتي من دونك! هل يعقل بأن أضع كامل زينتي دون أن تطرب آذاني
بنغمات ثناءك..هل أصبح الحب خالي الإحساس من حولي..لم عد أرى في حياتي أحباب
وكأن الحب ممل..لا معنى لا لون لا ذوق له..وكأن الحب انتهى بنهاية علاقتنا,
كيف لي أسرح شعري دون أن يكون لك رأي فيه..كيف أنتقي ألوان ثيابي دون أن تحدد مايعجبك.
كيف لي أتخير عطوري دون أن تستنشق عبيرها من على رسغي لأنتظر جوابك:
" أنت الورد كله والعطر يتعطر بك..."
لا أعلم يـا أحمد..ماذا تغير في حياتي....أعلم بأني عشت السنين الماضية من دونك..ولكن عندما شاهدتك المرة الأخيرة
وكأني لم أعش يوما قط في غيابك؟
هل كنت في سبات عميق وصحوت أم كنت ميتة وحييت...
هل يا ترى تتذكرني مثلما أذكرك... وانتهى تفكيري العميق به وأنا ابتسم وكأنه أمامي.
نظرت لوجهي قي المرآة...ورأيت ملامحه فيّ..فـ احتضنت وجهي بين راحتي وهمست:
" كم اشتاق لك..كم أكره وجودك في حياتي مرة أخرى..وكم يضنيني هذا التضاد من المشاعر فيّ"
كيف تنازلت عني وعن حبنا بـ سهولة..كم أفتقدك..وكم أنت غبي..أكرهك أكرهك كلما تذكرت موقفك معي وكيف بـ سهولة
تذهب ولا أرى منك سوى ظهرك لي وكأن ما كان بيننا مجرد سراب وتلاشى
بل قوس قزح رغم جماله إلا أنه اختفى..انظر له وأنا أتخيل نفسي أمشي عليه لـ أصل إلى الغمام فـ أحتضنه بذراعي وأنا
أبتسم..سامحك الله سرقت مني كل حلم جميل..
لم أصحو من غفلتي إلا على صوت آذان المغرب.رددت الآذان وحرصت على ذكر دعائه ومن ثم أخذت أدعوا الله أن يجلي
همي ويشرح صدري وأن يكتب لي الخيرة في أمري.وأن يساعدني كي أنساك يا أحمد.
سمعت صوت سيارة بالخارج.و أدركت بأن ضيف والدي غادر المنزل.خرجت مسرعة من غرفتي
وشاهدت صغير شقيقتي في طريقي وسألته:
" أين جدك؟"
"لقد خرج للصلاة مع الرجال"
" رجال!!! وكم عددهم"
"اثنان"
"حينما يعود اخبرني"
"ربما يعودون معه"
" لا تنادي علي إلى إذا كان لـ وحده..لا تنسى"
"إن شاء الله"
مررت بـ آلتي الحبيبة وأعددت لي كوب من القهوة وتوجهت ل غرفتي..وكنت أخاف الخلوة مع نفسي فـ أنا على يقين بان
أحمد سـ يشاركني فيها.وحاولت ان أشغل نفسي بتنظيم دولابي وأدراج غرفتي والتي كانت منظمة جداً.ولكن قمت بتبديل
أماكن الأغراض من درج لـ آخر وتصرفي هذا يثبت تشتت تفكيري رغم نظامي في الترتيب.
وفي لحظة انشغالي سمعت قرع على بابي.فتحت الباب وإذا والدي مبتسم لي.
" مشغولة؟" سألني وهو يستأذنني بالدخول.
" أبداً يا أبي حياك الله"
"لا أعلم كيف تشربين هذه القهوة..رائحتها قوية في غرفتك" وهو يحك أنفه باشمئزاز من تلك الرائحة.
" أنت تجلس بالقرب منها" حملتها بعيدا عنه وأنا أضحك بـ صوت خافت.
" اجلسي بالقرب مني أود الحديث معك" وهو يشير إلى مكان قريب منه على طرف السرير.
جلست وأن أشد على يدي حتى كادت تغرس أظفاري في راحة يدي والخوف يسري فيّ مع كل قطرة من دمي..وقلبي يردد
اسم أحمد.
وضع يده على ذراعي وكأنه يهدي من نبضي المتسرع..ونظر في عيني وبعد تنهيدة من صدره جارتها تنهيدتي قال:
"زارني اليوم أبن خالك أحمد ومعه زميل له " انتفضت حينما نطق باسمه وكأنه شعر بارتجافي فـ شد من ضغطه على ذراعي.
" وماذا يعنيني أحمد وزميله ..." وشعرت بالكلمات تحترق على لساني،حاولت أن أبدو غير مبالية.
وأكمل حديثه لي...
" لا أعلم كيف أبدأ بكلامي..الأمر يتعلق بشقيقك ناصر"
"ناصر!!!" قلتها باستغراب شديد من علاقة ناصر بالأمر. فـ هو ليس موجود من فترة وهو في رحلة مع أصحابه لأرض
تهامة. وكان الأمر بـ خلاف ما أتوقعه.
" ناصر في تهامة يا أبي"
" وهنا تكمن المشكلة...لقد تورط اصلحه الله في قضية أمنية"
" ماذا...؟" ودون شعور نطقت كلمتي تلك وأنا أقف على قدماي وانظر لـ أبي بخوف شديد.
لأرى في عينيه المسنتين الدموع وكل انكسار العالم والخذلان.
"لا أعلم ما لذي حدث هناك بالتفصيل..؟ومازال ناصر صغير أنا متأكد أن هناك من لعب عليه"
" وما هي قضيته؟؟"
" قضية تهريب سلاح..ويقولون بأنه اشترى أسلحة"
" تهريب سلاح..الأمر ليس بالهين يا أبي..وتعلم مع مشاكل الإرهاب في الآونة الأخيرة كيف التشديد بهذه القضايا,,وناصر
يستعد يا أبي لـ الإبتعاث، بعد شهرين عليه أن يكون في استراليا لاستكمال الماجستير هناك..لا يعقل ما تقول لي"واستطردت
حديثي بـ سؤالي:
" وما علاقة أحمد بـ الأمر؟" سألت والدي وأنا فعلا أجهل علاقة أحمد بـ قضية ناصر.
" زميل أحمد ضابط وهو من يتابع القضية..وجاءوا حتى يطمئنونني عليه ويبحثون معي أمره وما هي وسائل مساعدته"
جلست مرة أخرى وأنا أضرب بيدي على فخذي وقلت بـ حسرة" يا رب سترك..الأمر أصعب من أن نتحمله"
" أحتاج لـ مساعدتك يا ليلى وأنا على ثقة بأنك لن تخذليني"
نظرت إليه بـ نظرة تشهد بأن كل ما في فداه فقط أنتظر أن يطلبني.
تردد قليلاً ومن ثم نطقها وهو خجل" أحمد طلبك للزواج..وهذا شرطه في مساعدة أخيك..عرفت بـ الموضوع منذ فترة وكنت
أخفيه عنك ولكن الأمر الآن بيدك مستقبل أخيك بل مستقبلنا جمعيا "
وكأن بي في لجة أمواج تهوي بي لـ قاع لا نهاية له..يتحشرج في صدري الهواء وابتلع ضيم أحمد وويلات مصيبة ناصر
وحزن والدي.
وكنت أغرق في أفكاري وكيف أحمد يساومني بـ هذه الطريقة..وشعرت أن هناك أمر يخفيه عني بل عن الجميع.ولا أعلم كم
مضى من الوقت وأنا أنظر للأرض وكأني ارجوها أن تنشق وتبتلعني
المهم أن لا أكون في حياتهم..وكم تمنيت لو الدمع يحكي عن ضيق سكن في صدري عنوة بـ سبب أحمد وعائلتي
الكريمة..ولكن هيهات الكل خذلني حينها حتى دمعي وصوتي..ولم أصرخ بالآه...
يتبع....