لستُ امرأةَ من الشّمع أذوي لرغبةِ الضّوءِ و يعبرني حدَّ النّشوةِ و الاحتراق
ثمَّ أعاودُ الوقوفَ و التّشكّل بفتيلِ أملٍ آخر
قلبي ليس رقعةَ شطرنج يسيرُ على خطّةٍ محكمةٍ للنّيلِ من أوردتِهِ نصراً لشرايينه
و يغزوهُ الصّمتُ لنبضةٍ قادمة خوفاً من حزنٍ مفاجئٍ أو فرحٍ غير متوقّع
يدايَ تحرّرتا من الخشبِ منذُ أن امتصّت النّارُ اهتمامَ البشرِ و تغذّت على مخاوفهم
و نبتَ مكانَ أصابعي عشرةُ أشجارٍ بلوريّةٍ جذورُها الرّياح
قلبي تعلّمَ الطّيرانَ مُذ أن سوّلت لهُ نفسُهُ أنّهُ غيمة
محجوزةٌ أنا في فضاءٍ يتّسعُ لعالمٍ من الأحلام و يضيقُ بلحظةِ توحّدٍ مع الشّوق
عبثاُ أحاولُ التّحرّرَ من سطوةِ جناحيَّ ,
عبثاً أنهالَ بذاكرتي على عينيَّ المتّجهتينِ أقصى الحبّ
عبثاً ألقي بستائرِ الخيبةِ الرّماديّةِ على أشجارِ الصّنوبرِ دائمةِ الأملِ في قلبي
و بقميصِ الخريفِ على خضرةِ انتظارها
عبثاً أصمتُ ,
ليغنّي الحزن ..
:
في حزني مساحةٌ شاسعةٌ اسمها الوطن , و في وطني حزنٌ شاسعٌ كما المسافةُ إليكما
كلّما مددتُ لهفتي , عادَت بخيبتين !
:
الحزنُ لغةُ اللّيلِ , يكسو بهِ صمتهُ العاري
و الصّمتُ حزني الّذي يكشفُ اكتساءَكَ باللّغة
:
بيني و بينكَ تتّسعُ اللّهفةُ و يأخذُ الشّوقَ شكلَ مغاراتٍ تعتلي جبلاُ شاهقَ الدّهشةِ و البكاء
لا تملكُ الذّاكرةُ سُبلَ الصّعودِ إليه و لا يتسلّل إليهِا الماضي ,
أنا بمستقبلٍ دونكَ , تماماً كالحبِّ دونَ بدايات
يسترقُ اللّهفةَ من ارتجافِ أصابعِ الآخرينَ في لحظةِ عناقٍ أوّلٍ يتكرّرُ مئةَ عام
يتشابهُ غرقي بتفاصيلِ الحبِّ مع مراكبِ البّحارةِ البسطاء
يخرجونَ بها إلى عرضِ البحرِ
و هم يعلمون أنّهم يخاطرونَ بحياتهم لأجلِ سمكةٍ قد لا تسدُّ رمقَ حرمانهم !
و يُشبهُ حبّكَ عرباتِ الأمراءِ الفخمة
مزيّنةً بالضّوءِ و القوّة و التّرف
بينما يزلزلُ مطبٌّ صغيرٌ سكينةَ ركّابها حتّى هاوية الابتساماتِ المصطنعة !
:
لماذا كلّما كتبتُ إليكما سالُ الدّمُ من أصابعي و تحوّلت أحلامي السّريّةَ إلى نوارسَ بلا موانئ ؟
لماذا كلّما أفشيتُ بسرّنا إلى الرّيحِ قبّلتني خناجرُ الظّنونِ في عنقي ؟
أيكونُ بيننا وهمُ الطّعناتِ كما الوطن ؟
أم أنَّ أجراسَ حبّكَ ملّت الأنغامَ المعلّقةَ على حبلِ الرّيحِ
و تسعى نحوَ قيدِ اللّحن المجهولِ المتكرّر على ذاتِ الخيبة ؟
:
لا أفتقدكَ ..
تماماً كما لا يفتقدني الياسمينُ المنثورُ في باحةِ طفولتي و صوتُ جدّتي المعتّقِ بالضّوء
لا أفتقدكَ ..
تماماً كما يجيءُ بي الشّوقُ و يروح ,
و يعصفُ بأرجوحةِ لهفتي المعلّقةِ بين شقائقِ النّعمان في حبّك
و لا أهوي !
أو كما لا يفتقدني الوطنُ إلّا على جوازِ سفرٍ قديمٍ و تذكرة
لا أفتقدكَ حتّى حينَ أتركَ ورقتي بيضاءَ بلا شوق
و تطؤها أجنحةُ العصافيرِ فتمتلئُ حزناً !
:
ملامحُ غربتي يلوّنها القمرُ ببريقٍ فضيٍّ يُشبهُ لونَ عينيك
يربّتُ على أرقي و يكتبُ لامبالاتِكَ بالماءِ فوقَ الأزهار
و عندما تُشرقُ الشّمس
يتبخّرُ صقيعُ صمتكَ من أطرافي
و أصحو على مفاجأةِ ربيعٍ آخرَ في صوتك !
:
حبّكَ بعيدٌ كالأفق
متّسعٌ كمعنى الوطن
أستقلُّ الغربةَ فلا أهربُ إلّا إليكما
أمارسُ النّسيانَ فأكتشفُ إدماني بكما
أحدّقُ بالشّمسِ فيشتعل في عينيّ الحنين و في قلبي تتقدُّ حرائقُ الشّوق ..
أخطُّ تمرّدي عليكما بالأحمرِ , فأكتشفُ أنَّ دمي يغزوهُ الياسمين
و يضيعُ في بياضِ الورق .
حائرةٌ أنا بينكما أتحسّسُ الجرح الغائرَ في قلبي
فأكادُ أتلاشى ككلامِ اللّيل
مع أوّلِ خيوطِ الحقيقة
بين دفّتي حنيني بكاءٌ فتيّ مخضّبٌ بالحنّاءِ
يُنبتُ الأعيادَ المزخرفة و الأحزانَ المعشبةِ
كغيثِ الصّحو كلّما هبَّ النّسيان .
يكبرُ الوطنُ في داخلي , و أكبرُ أنا في الغربة ..
أتوهُ في زحامِ العودةِ و الرّحيل
أجدني دوماً بين وداعين
و على حافّةِ فراق
تزلُّ عينايَ و يُمسكني الشّوق
يُمسكني صوتُكَ الهاربِ من ثلوجِ صمتكَ
يشدُّ بأهدابهِ على دمعي
فيطارحني الشّوقُ البكاءَ حدَّ الثّمالة ..
:
يعاتبني المنفى : تحبُّ الفراشاتُ حتفها المُضيء
فيسيلُ شوقي : أحلى الإحتراقينِ مرّ !