بالفعل أعطوني رئاسة القسم، ووضعوا لوحة جديدة على المكتب وبخطّ أجود هذه المرّة، وحين عدت للبيت وأكدت لأبي أن المطلوب قد تمّ لم يقل شيئاً بل أغمض عينيه واستغرق في شيء ما يشبه التسابيح.
سأتجاوز أحداث سنة كاملة، وإن شئتم الصدق لا شيء يستحق الذكر في تلك السنة؟! ضاعت أيامها من عمري وأنا أرتدي ملابسي الفخمة كل صباح وأنتظر وصول الإفطار في الساعة العاشرة وأستمع لنفاق وضيع من صغار المستخدمين حتى موعد الانصراف.
لكن يبدو أنّه بعد السنة قد حان موعد الخارصين. ذات صباح بارد، وكنت للتو قد جلست على الكرسي ومازالت برودة مساند اليد المعدنية تنفذ لي من خلال الثياب سمعت طرقاً خفيفاً على الباب. في العادة المستخدم اللطيف الذي يحضر الشاي صباحاً هو عبدالسلام أو كما يناديه الجميع "سلاموك"، وسلاموك يعلمني عن وصوله لباب المكتب بترديد البسملة والصلاة على النبي بصوت يبدأ بنبرة عالية ثمّ ينتهي بهمس لطيف يشابه بداية شواربه الغليظة ونهاياتها الرقيقة الذائبة في لحيته.
انتظرت لثوان قليلة. عاد الطرق مرّة أخرى وقد زادت شدّته قليلاً عن مستوى الخجل. بحثت عن أيّ شيء أضعه أمامي على المكتب لأبدو كموظّف فلم أجد سوى قلم. رفعت بصري للباب وقلت "تفضّل". انفرج الباب بهدوء على نغمة صرير ناعمة، وتسلّلت أشعة الشمس التي بالكاد ارتفعت عن حدود المبنى المقابل، وحين اكتمل انفراج الباب كانت تقف أمامي شمس أخرى من لحم ودم، ولست أعي الآن أكانت حينها من الرقّة بحيث ينفذ ضياء الشمس منها أم أن دمها ولحمها خلق من ألماس سائل ومعجون بالذهب فكانت تتشرّب الضياء وتنشره.