في المطار .. أوقفوا الوطن !!
بالطبع لم يكن السبب مخدرات أو قنبلة أو شيء من هذه الممنوعات الخطرة ، التي نسمع كثيرا عنها وعن قصصها الغريبة في المطارات . ومع ذلك فتشوه قطعة قطعة وزاوية زاوية ، من أقصى ذرة تراب بجنوبه إلى أقصى قطرة ماء بشماله . إستجوبوه بألسنتهم وأعينهم وأيديهم التي تمرست بحكم الخبرة والتجارب على الشك والارتياب والملاحظة وبكلابهم المدربة فائقة الشم والذكاء ، وفحصوه بأجهزتهم وأشعاتهم المتطورة الشديدة الحساسية والتي يستحيل أن يفوتها أو يفلت منها شيء مهما دق أو خفى . استغرق ذلك بعض الوقت ، ثم لما لم يعثروا على شيء ممنوع قالوا للوطن والخجل يلطخ وجوههم بالإحمرار والسواد : متأسفون . توكل على الله . الله معك .
وخرج الوطن من غرفة التفتيش حزينا مكسور الخاطر !!
ويبدو أن الضابط استغربني واندهش ؛ إذ يراني أمامه غير مرتبك أو مرعوب لأنهم اكتشفوا شيئا ما مشبوها أحمله مضموما في سترة ملابسي وأدخل به المطار بكل اعتداد وثقة وأنا على وشك السفر . وأكثر ما زادهم إستغرابا وفضولا تلك الإبتسامة الهادئة والواثقة التي كانت منطبعة على شفتي ، ثم ذلك السؤال الموبخ الذي تلاها والذي صفعت به وجه الضابط :
ـــ ألا تعرف حقا هذا الشيء الذي داخل هذه القارورة ؟!
أردت أن أرد بعضا من اعتبار للوطن ، ودون أن يلتفت إلى القارورة ، أجابني بحنق مكبوت تخالطه نبرة سخرية وعيناه ذاتا اللمعة المتحدية مثبتتان في وجهي :
ـــ لا والله يا طيب . وسيسعدني جدا أن أعرف وحالا .
وبهدوء وضحت له وأنا أشير بيدي إلى القارورة :
ـــ هذا الذي في هذه القارورة هو تراب الوطن يا أخي . أنا مسافر في رحلة طويلة ، ولا أعلم متى سأعود منها ، وقد حملته معي لأظل أتذكر به رائحة بلادي . هل فهمت المغزى الآن ؟!
اتسعت الدهشة في حدقتي عينيه . شعرت أنه أمام حالة خاصة كسرت كل معتاد اعتاده في روتين التفتيش الذي يمارسه كضابط ، لكن نظرته المتشككة تلك والتي لم يزحها عن وجهي أنبأتني أن ما بالسهولة أن تمر عليه قارورة عادية صغيرة مرور الكرام ويطوِّفها بسلام ، بل قد لن يقتنع بصراحتي هذه ولن يكتفي بها إلا بعد أن يطمئن عمليا وبنفسه وبما لديه من أجهزة وأدوات وصلاحيات بأن ما أحمله بنظره ليس أكثر من تراب عادي لا يدخل ضمن قائمة الممنوعات .
الأمر يبدو غريبا ؛ فالناس تسافر ولا تحمل معها إلا أشيائها العادية الخاصة ؛ حقائب . هدايا . كتب . ملابس . وجواز سفر بلدها الذي عليه صورتها وبياناتها وجنسيتها . هذا عادة ما يكون في السفر . لكن عندما تكون عاشقا لبلادك بطريقتك الخاصة التي تحس أنها الأكثر قربا منك والأكثر صدقا في تعبيرك . كيف ستقنع ضابطا عسكريا بطريقة عشقك هذه والتي قد ينظرها بسخرية وبأنها شكل من أشكال السذاجة أو السخف ؟! كيف ستقنعه بأن ما تحمله في تلك القارورة يمثل شيئا عزيزا لديك وأغلى من كل هذه الأشياء التي اعتاد هو أن يراها ويفتشها في المطارات وعند الحدود ؟! العسكريون واقعيون ، وعمليو التفكير ، وقلما يأبهون لأمور تتعاطى بهذا الشكل الشاعري الحالم ، بل غالبا لا تنطلي عليهم هذه العاطفة الغريبة ، ولا يخدعون بها بسهولة وخصوصا في النقاط الحدودية والمطارات الشديدة الحساسية . ولذلك رأيته يمسك بالقارورة ويقوم بعد فتحها بسكب التراب الذي بداخلها على ورقة بيضاء ثم أخذ يفتش ذراته بجهاز صغير وَمَّاضٍ ..
في ذاك التراب المسكوب على الورقة رأيت وطني .. كل وطني من شماله الأزرق إلى جنوبه الأخضر . في ذرات ذلك التراب رأيت بعين قلبي بحار الوطن وخلجانه ومضائقه وجزره ونوارسه وشطآنه وأطفال حاراته وهم يركضون بطفولتهم الحافية وراء كرة مهترئة نصف ممتلئة بالهواء أو يرسمون أحلامهم بطين البراءة على رمل واد أو شاطيء بحر .. رأيت جباله الشاهقة بجميع ألوانها . رأيت هضابه وتلاله . رأيت صحاريه الذهبية . سهوله المنبسطة . أوديته . أفلاجه . عيونه . قراه . بيوته . أسواقه . نخيله وغاباته وقلاعه وحصونه وكل تاريخه المتجذر في أعماق الحقب والدهور . رأيت وجوه أهله البسطاء . سمعت ضحكهم . كلامهم . قصص أساطيرهم . أشعارهم . مواويلهم . ولحظتها . لحظتها فقط ، وقد انبسطت أمام عيني كل هذه الصور الغالية تعمق حزني وازداد ألم قلبي كوني على شفا أن أرحل عن كل هذا الذي رأيت وسمعت وشممت ولمست وعشت !!
لم يُظهر جهاز كشف الممنوعات أي شيء مخالف . في عين الضابط كانت مجرد حفنة عادية من التراب . أعادها إلى جوف القارورة ثم أغلق الأخيرة . هذه المرة بدت ملامحه غير متجهمة وهو يناولني القارورة مبتسما ويعتذر بخجل على الإزعاج الذي سببته لي إجراءاته وطلب مني أن أعذره . لم أحتج أو أرتج . فالمهم أنه أفرج عن الوطن !!
عذرته وقدرت باحترام بالغ واجبه . هو الآخر حتما يحب مثلي الوطن . يعشقه . يقدس ذراته . يراه أغلى شيء بالدنيا يحبه ويخاف عليه . تختلف الطرائق فقط !! كان صديقي أحمد ناصر ينتظرني بقلق بالغ في قاعة المغادرين وعند نفس الطاولة التي طلبته أن لا يبرحها حتى أعود ..
ـــ سلامات . شو صاير ؟! وليش أخذوك معهم لغرفة الضابط ؟!
أخـرجت القارورة الصغيرة من جيب قميصي . وضعتها على الطاولة التي بيننا وقلت وأنا أضحك :
ـــ هذه التي أخذتني إلى هناك !!
ـــ قارورة ؟!
ـــ وأغلى قارورة بالدنيا !!
ـــ أنت غريب الأطوار يا عيسى !! تحمل ترابا داخل قارورة يعرضك للشبهة والمشاكل ؟!
ـــ وما يضير أن أحمل ترابا داخل قارورة ؟! أتعرف أنت ما يكون هذا التراب ؟!
ـــ .......... ؟!
ـــ إنه تراب الوطن !!
ـــ تراب الوطن ؟!
ـــ أجل . تراب الوطن !!
ـــ آااه . الآن فهمت !! أنت لم تتغير أبدا في طرائق عشقك الغريبة هذه !!
ـــ جميل أنك وصفتها بطرائق عشق !!
أعدت القارورة في جيبي وأنا ألمح صديقي أحمد مطرقا يفكر بصمت .
ـــ أحمد . ما بك يا صديقي ؟!
سألته ، فرفع رأسه ناظرا إليَّ . شيء من الحنان الكبير الممزوج بالخوف شف من تلك النظرة العميقة بعينيه وانعكس فورا على نبرة صوته عندما تكلم :
ـــ عيسى أخي . أنا خايف عليك !!
إرتفع حاجباي بدهشة :
ـــ خايف علي ؟! من شو ؟!
وكأنه يصارحني بسر خطير أجابني وهو يخنق نبرة صوته ويتلفت بعينيه في حذر :
ـــ من أفكارك الغريبة هذه . من آرائك ، ومن كل شيء له لون سياسي . أنت تفهم ما أقصد .
وكنت قد فهمت فعلا ما يقصد . وكان ما يقوله أو ينبهني إليه بداية لنقاش حامٍ ، اعتدنا عليه وعلى رياح عواصفه في مقاهي ثرثراتنا . لكني بتلك الساعة التي كنا فيها بالمطار لم أكن مهيأ نفسيا ولا ذهنيا لأي نقاش أو لأخذ ورد في أي حوار ساخن . الوقت ضيق ، كما إننا في آخر لقاء نلتقيه ولا أريد أن أختمه بشيء مزعج ، لذلك قلت له بابتسامة ملطفة للجو :
ـــ لا تقلق يا صديقي . سأحتفظ بهدوئي .
قاطعني بصوت بدا مبحوحا وهو يجاهد أن يجعله أكثر انخفاضا :
ـــ أنا لا أريدك أن تحتفظ بهدوئك فحسب . بل وبصمتك أيضا .
الكلمة الأخـيرة الآمرة التي سمعتها منه كانت أشـبه بـلاصـق قـوي مضغوط وضعه على فمي .
" الصمت " تلك الكمَّامة الكريهة التي مضى عليها ملصوقة بفمي حتى الآن عامين ، منذ حادثة إعتقالي واستجوابي ومنعي عن الكتابة ، ومنذ رجعت ظهرا من ذلك المكان الغريب وأنا دون فم . قلت وأنا أتجاوز صور هذه الذكرى المؤلمة :
ـــ حاضر يا صديقي . سأحاول .
خرجت هذه الكلمة من حلقي مغتصبة ولها طعمٍ مُـر . في ثانية الصمت التي تلت ، انطلق بغتة صوت ميكروفون المغادرة الأنثوي مناديا جميع المسافرين بالتوجه فورا إلى بوابة المغادرة رقم ( 7 ) . ما زلت أحفظ جيدا هذا الرقم والصوت الذي نطقه .
يا الله !!
لم أتصور أن الثلاثين دقيقة التي كانت متبقية لي هنا بالمطار قد اقتربت من نهايتها وأنه لم يتبق منها إلا عشر دقائق . عشر دقائق فقط وأغادر مودعا صديقي ووطني بكل أرضه وسمائه وهوائه ووجوهه وأصوات أهله . عشر دقائق وأصعد بعدها الطائرة لتطير بي بعيدا جهة المجهول . خلال هذه الدقائق العشر ، وقفت وصديقي قبالة بعضنا بعضا . هزمتني الدموع في تلك الوقفة فأجهشت بالبكاء وأنا أحضنه مودعا ، حتى تركت صدره مبقعاً بدموعي التي بللته . أحسست بكفيه الحانيتين تربتان على عضدي وهو يقول وشعاع عينيه ينفذ إلى روحي بكل قوته ويستقر فيها مثل نور الله :
ـــ خلي بالك من نفسك يا صديقي .
ـــ إن شاء الله أخي . وأنت أيضا .. لا أوصيك على صحتك .. يهمني أن تكون بعافية وخير دوما .
ـــ لا تقطعني .
ـــ أعدك .
تلاقى وجهانا .. شد على راحة يدي مبتسما ..
ـــ كن كما عهدتك رجلا وقت الجد .
ـــ ونذلا وقت الهزل .
ضحكنا .. لم أنصرف مباشرة عنه . انتهزت تلك الدقائق القليلة التي تبقت لي بالمطار لأظل فيها معه . قلت له وأنا أضبط كاميرا التصوير بهاتفي :
ـــ دعنا نصور معا آخر صورة سيلفي لنا قبل أن أسافر عنك .
وقفنا متلاصقين ويد كل واحد منا مشبوكة في يد صاحبه وعلى وجهينا إبتسامة مرحة واستعددنا للتصوير . " تشك " .
سابقت الزمن الذي يلتهم ما تبقى لي من وقت هنا ، وأرسلت الصورة الملتقطة بسرعة إلى هاتفه . آخر صورة للذكرى تجمعنا معا قبل رحيلي . انكفأنا في الصمت .. كانت دمعة صامتة تجري بجانب أنفه منحدرة من عينه . أسرع يمسحها بأصابعه .. آلمني بريقها الحاد الأشبه بلمعة مدية .. كتمت ألم وخز شعاعها وأنا أفتعل إبتسامة باهتة أقاوم بها أنا الآخر موجة جديدة من الدموع على وشك أن تنحدر من عيني .
ـــ هو أنا رايح جبهة حرب عشان نقلب وداعنا ميلودراما ؟! هي أربع سنوات وأعود إليك وربما بجنون أشد !!
أشرق وجهه ضاحكا وقد إنقشعت سحابة الكآبة التي كانت تغشاه وقال بتفاؤل كبير وكأنه يقرأ كف طالعي :
ـــ بل حتما لا محالة ستعود عاقلا .
ضحكت مستخفا بنبوءته :
ـــ حتما لا محالة ؟! وما الذي يجعلك واثقا وبشدة من إحساسك هذا ؟!
ـــ أظن أن القدر يرسم حظك هناك بشكل أجمل . حدسي لا يخيب .
ـــ سنرى .
وكمن يسحبني بقوة من يدي ، عاد نداء الميكروفون بقاعة المغادرة ينبه بضرورة توجه المسافرين فورا إلى البوابة رقم ( 7 ) . وأنا أسمع هذا النداء ، شعوران شداني بتلك اللحظة إلى اتجاهين مختلفين : بلدي التي سأرحل عنها الآن وبلاد بعيدة تناديني أن أسرع أنا بانتظارك .. بين قطبي بلدين إحتدم عذابان في قلبي : وداع وطن سأرحل عنه ولهفة حلم إلى وطن آخر أهم بالسفر إليه . تنهدت في ضيق وألم . خمس دقائق تبقت . كنت فيها أشعر كاني أموت ببطء .
ــ عيسى ..
همس صديقي وقد انقلب وجهه كئيبا جدا وكثير التجاعيد والانكماش هذه المرة . أنصتُّ وأنا أتشبث بيديه وعينيه :
ـــ نعم أخي أحمد ..
أحاطني بذراعيه .. ضممته بكل حرارة الوداع . كنا ندرك أن فراقنا بات وشيكا الآن ..
ـــ لا إله إلا الله .
قال فأكملت :
ـــ محمد رسول الله . مع السلامة أخي أحمد .
ـــ الله يحميك ويوفقك أخي . مع ألف سلامة . إنتبه لنفسك .
ـــ الله خير حافظا . تفالتت أيادينا المتوادعة ، وانصرفت عنه مهرولا باتجاه بوابة المغادرة التي تفضي مباشرة إلى ساحة المطار ، حيث هناك تنتظرني طائرتي . كان رقم ( 7 ) المثبت أعلى البوابة يضيء مع سهم الإتجاه بلون أبيض ، وكأنه يرشدني إلى إتجاه القدر الذي ينتظرني .
ألم الوداع والفراق أثقلا كاهل روحي وقلبي وجعلاني أشعر ببطء واضح في خطاي وكأني أجر ورائي كرة ضخمة من حديد .
كانت تلك الوقفة الوفية التي تبقت من آخر صور وداع صديقي لي توجع قلبي . كنت أتابع سيري متلفتا خلفي وناظرا إلى صديقي ويدي تلوح له مودعة . إلى أن وجدتني أمام عتبة البوابة الإلكترونية التي إنفتحت لي فجأة وأمامها رأيت نفقا طويلا مسقوفا بعرض مترين . حتى هذه البوابة المتواطئة مع القدر ، شعرت بها تدفعني دفعا هي الأخرى جهة الرحيل .
دلفت أنا والمسافرون في جوف ذلك النفق الذي أوصلتنا نهايته إلى باب الطائرة الذي عنده كان ينتظرنا أحد طاقمها . إذ ذاك ، وبمجرد ما دخلت هذا النفق ومشيت ، كانت صورة صديقي أحمد قد اختفت ، ولم أعد أراه .
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ