صعد المصطبة ، ونظر إلى بيوت الحي ، ثم ثبَّتَ بصره على أحدها ، وقال : عندما تَهُبُّ الرياحُ أتَعَرَّضُ لها ، لعلها تَأْخُذُ بعضًا من الحنين الذي أَنْهَكَ قلبي ، لتُلقيه في قلبكِ ، لتَشْعُري بما أُكَابدُهُ من الحنين إليكِ ، فتعطفي ، وترأفي !
ثم نزل ، وجال في السطح المقسم إلى أربعة أقسام ، وجال في الغرف الثلاث فيه ، ووقف عند الغرفة الأخيرة ، وتبسم عندما تذكر عندما كان يضعُ العلمَ في آخر الزاوية منها ، وكاد يسقط ، لولا أن الله سلم !
نزل من السطح ، ونظر إلى الغرف الثلاث عن يمينه ، ثم دلف إلى الغرفة الأخيرة التي تؤدي إلى الفناء الخلفي (الغربي) ذي الثلاث نخلات ، وجوافة ، وكينة –يصطاد الطيور التي تأوي إليها- ، وتينة ، وخم دجاج وحمام ، وغرفة مسقفة بالطين والجريد !
تبسَّم ، عندما تذكر عندما غاب عن الحي بضعة أسابيع ، ثم عاد ، فاستقبله أترابه بالحفاوة والترحيب وأهدوه بعض ألعابهم !
كان يجول في المنزل ، ودموعه تنهمر ، والحنين تصطخب أمواجه مع كل ذكرى ، ولم يستطع نظم بيت ، ولو استطاع لاحتاج لمائة بيتٍ –على الأقل- لوصف ما يعتلجُ بقلبه !
اتجه إلى المنزل الذي أودع قلبه فيه ، ودلف من الباب الأخضر ، واتجه إلى شجرة الليمون في آخر الفناء الشمالي الشرقي ، ووقف أمامها ، وقال : لئن نالت الأيام من قوتي ، وصحتي ، وشبابي ، فلن تنال من قلبي الذي استعمره هواكِ ، وسيظلُّ على توقده ، قلب الطفل(عزُّو) الذي أحبكِ بكل جوارحه ، والذي ما في جسده جارحة ، إلا وتحن إليكِ حنين الحبِّ للفتكِ بالقلوب ، واللصِّ الخفيِّ (الحنين) للتسلل إليها لحرقها وإرماضها !
ثم هبتْ نسمةٌ خفيفةٌ حركتْ أغصانها الريانة ، فقال : حُكمَ على من صبا بدنف القلب ، وإرماضه ، وسهر الليل ، ومخادنة بلابل الحنين ، أفما في هذا كفارة له ، ورأفة به ، وحصوله على الخروج من ضنكِ النأي ، وإدناف الحنين ، إلى بستان الوصل ، ورياض اللقاء ، وقصور السرور !
آهٍ لو تعلمين عِظَم حبي لكِ ، وحنيني إليكِ ، فوالله ما صليتُ لله صلاةً إلا وكنتِ من أعز الأماني التي أرفعها إليه ، وأسأله إنجازها ! فليت لكِ عيناي وقلبي ، فتري بأي عينٍ أنظرُ إليكِ ، وبأي قلبٍ أجلُّكِ !
ثم قطف ليمونة ، ونظر إليها مليًّا ، وتبسمَ عندما تذكر إطلالتها عليهم وهم يلعبون تحتها ، فقال : عندما تطلين علي وأنا بجانبها أقطف منها واحدة ثم آكلها فأجدها حلوة لذيذة لأني كنت أنظر إليكِ ولو شربتُ السم الزعاف في تلك اللحظة لاستطبته واستعذبته لأني أراكِ أما حين تختفين عن ناظري يصبح الكون على اتساعه أضيق علي من سَمِّ الخياط .
ثم نقل ناظره إلى الباب الأخضر المطل على جهة الشمال ، الذي كانتْ تطلُّ عليهم منه على استحياء ، وقال : (مَصِيْرُ الأَحْيَاءِ اللقَاءُ) ! لم يَصْدُقْ قَائِلُ هذه العبارة ! فقد طال انتظاري ، ورفع أكفي ، ولم نلتقِ ولا حتى عن طريق الصدفة ، وقد مضى أكثر العمر ، ولم يبق إلا أقله ، وإني لأنتظر ذلك الحلم على أحر من الجمر ، فإن تحقق فالسلام والحنين عليكِ وإليكِ إلى يوم يبعثون ، وموعدنا في أرض المحشر !
يتبع ...