الرواية: لأنني أحبك.
الكاتب: غيوم ميسو.
عدد الصفحات: 320.
التقييم: 4.08/5.
مزيدٌ من معلومات الرواية: GoodReads
منذ الدهشة الأولى التي تملكتني و أنا أقرأ "فتاة من ورق" لغيوم ميسو، و أنا أتحرى أن أقرأ له مجدداً مرة تلو مرة تلو أخرى. "لأنني أحبك"، دهشتي الثانية لغيوم ميسو تجبرني على أن أقرأ له المزيد مجدداً كثيراً.
تكون قراءة الروايات بدرجات مختلفة، من قارئ لآخر. كذلك بدرجات مختلفة أيضاً من كاتب لآخر. لكن، أن تقرأ رواية لغيوم ميسو، ليست كأن تقرأ رواية حتماً. القراءة لغيوم ميسو تعني أن تستدعيه، تناديه و تُعلمه بأنك ستبدأ بقراءة رواية له، و ما منه إلا أن يأتيك، يجلس مقرفصاً أمامك، راوياً عليك ما اقتنيته من رواية من بين رواياته.
هو كذلك غيوم ميسو؛ و هي كذلك كانت "لأنني أحبك". ففي الرواية، لا يمنحك الكاتب الاقتدار على خلق المشاهد في مخيلتك و التمكن من رؤيتها بشكل تامٍ وحسب، و إنما يمنحك المقدرة على سماع أصوات الحوار بصداها و نغمات المحدثين بها من كافة الشخوص التي تحملها الرواية بين جنباتها. فحين تقرأ، كل صوتٍ له مداه و صداه الخاص، و كأنما الأصوات صادرة من بشر ملموسين لا في خيالك ماكثين وحسب. نادراً ما تجد روائياً متمكناً من ذلك، و غيوم ميسو غنيٌ عن التعريف في هذا الصدد، و خصوصاً في روايته لأنني أحبك.
لا يقتدر أي كاتب على فعل ما يمارسه غيوم ميسو في رواياته إلا كاتبٌ بارعٌ مقتدر. كان كذلك أيضاً في روايته "لأنني أحبك". فالرواية، كيف تم خلقها، مزجها، صناعتها، ترابطها، نوعية الروابط فيها، ما هي الروابط فيما بينها، كل شيء، كان مدروساً بدقة متناهية حد الذهول.
لا أعلم كيف يتمكن الكاتب من أن يفاجئ قارئه في كل لحظة بما لم يكن في الحسبان، بالأحرى، بما ما لا يقتدر القارئ أن يكون في حسبانه من مسار الرواية! فتناغم الرواية، كيف تمكن الكاتب من تصوير أحداثها بتلك السلاسة و التسلسل غير متوقعة، تجعل القارئ مذهولاً دوماً!
في الروايات، قليلون أولئك الذين يتمكنون من أن يدمجوا بين زمنين حاصلين، ربما ثلاث أو أكثر، أياً كانت طريقة الدمج تلك، في سياق الرواية، دون أن يربكوا القارئ و دون أن يستنكر القارئ لحظة قراءته متسائلاً عن الوقت الذي هو فيه الآن. لكن، غيوم ميسو، كان متمكناً تماماً من ذلك، متمكناً للحد الذي يتراءى للقارئ أنه في وسط الحدث مسافراً عبر الزمن متنقلاً بين الأزمان في سياق الرواية دون جهدٍ أو محاولة منه بالتشبث بما يساعده على التوازن. فالكاتب، يمنح القارئ كل التوازن الممكن، من غير ارباك و لا تشتيت له، يمنحه حرية التنقل و الحركة عبر الأزمان و بسلاسة تامة دون اختلالٍ في التوازن.
رغم ذلك، رغم كثافة الرواية، كان الكاتب ذكياً جداً بشكل فذ، فيما يروي. أحداثٍ متكاملة وحسب، دون دس مشاهدٍ و أحداثٍ، القارئ في غنى عنها تماماً. فالكاتب في "لأنني أحبك"، كان يروي وحسب، المهم من الرواية، و كأنه قد سبق له و قرأ رواية ذات الكثير من الصفحات الهائلة آتياً للقارئ من الرواية التي قرأها بشكل جميل برواية مختصرة، ليس وكأنما هو كاتبها الذي كتبها.
مع ذلك، البارعُ وحده قادرٌ على أن يروي مشهداً واحدة من عدة زوايا و كأنه كاميرا، دون أن يسبب للقارئ شعوراً "أوه، أظنني قد سبق و قرأت هذا المقطع!". كان غيوم ميسو من البراعة ما يمكنه من فعل ذلك في مشاهد عدة في هذه الرواية. فيروي المشهد أكثر من مرة، و كأنه يروي مشاهد عدة، دون أن يظن القارئ و بأنه يكرر القراءة، إنما بدلاً من ذلك يمنحه شعوراً بأنه يقرأ مشهداً قائلاً في نفسه "أظن أن مشهداً كهذا حصل في حياتي ذات مرة!"، دون أن يعلم في ذات اللحظة أنه قد سبق و قرأ المشهد بطريقة أخرى في الرواية.
كذلك، الكاتب، لم يجعل القارئ ينخرط في قصة ما، حدثٍ ما، بشكل طفيلي! و إنما كان الكاتب يأخذ بيد القارئ ليدخله في هذه القصة من الباب الصحيح و يخرجه من القصة من الباب الصحيح كذلك. فلا يشعر القارئ في أي لحظة من الرواية و كأنه دخيل في القصة، متطفلٌ ما على القصة و خصوصية الرواية بقراءته تلك. و إنما الكاتب يجعل القارئ يكون مع القصة، جزء منها، و لا يغادرها من غير أن تكتمل به؛ و فعل شيء كهذا مع القارئ، استثنائيّ بحد ذاته.
في شأن الأحداث الروائية أقول، ما لم تستطيع حل المشكلة التي تصنعها، فلا تصنعها من فضلك.
غيوم ميسو، كان متمكناً جداً من حل كل مشكلة صنعها في الرواية. فالرواية، لا تترك في نفس القارئ عدم تكامل بشأن أمر ما لم يكتمل في الرواية. فالكاتب كان يحل بطريقة ما كل مشكلة يصنعها في الرواية، و لا يترك أي مشكلة دونما حل قبل أن يختم الرواية، محترماً بذلك قارئه. نادرٌ أولئك الكتاب الذين يُنهون رواياتهم دونما ترك مشكلة غير محلولة كما فعلها غيوم ميسو في هذه الرواية "لأنني أحبك"!
أن تعالج قضية ما، على شكل رواية، ليس شرطاً، و إنما أن تطرح قضية ما على شكل رواية هو المهم من ذلك. هنا، في "لأنني أحبك". كان الكاتب ذكياً جداً في طرح القضية التي أراد من قُرائه أن ينتبهوا إليها دونما أن يشعرهم و كأن الأمر درسٌ مستهلك. فالكاتب في الرواية، كان يطرح القضية التي أرادها على شاكلة غير علمية، بحتة، أو ما شابه. فخلق الرواية، على هذه الشاكلة، مزيج من الواقع، الخيال، الخرافة، الحقيقة، كل شيء، كان أمراً ممتعاً مبهراً بحد ذاته في طرح القضية دون أن يمنح القارئ شعوراً بالإيضاح القاتل للهدف المراد من الرواية.
لكن، التنقل بين الفصول، بوضع مقولة في بدايتها، كانت لها أثراً سلبياً على الرواية بشكل ما. إذ أنها كانت تخلق ركاكة في التسلسل القرائي لا التسلسل الروائي حتماً. رغم ذلك، لم تكن بالركاكة التي تسيء لتقييم الرواية، فكل الإيجابية التي تحملها، كانت كفيلة بأن تنحي تلك الركاكة جانباً من غير تسليط ضوء عليها.
من الرغم من ذلك، قراءة الرواية، رغم أنها على وتيرة واحدة عالية جداً دون منعطفاتٍ و انحدارات، تمنح القارئ شعوراً بالسلام، الطمأنينة، الهدوء، الأمان، التفكر، و الارتخاء التام. فكيان الرواية رغم بساطتها، هائلة بعظمتها.
إنه ليس من السهل أن لا يكون الكاتب حاضراً في سطور الرواية بشخصه ذاته مفسداً ماهية الرواية بذلك، إلا أن غيوم ميسو متمكن من ذلك بشكل لا نقاش فيه. إلا أنه، دوماً، كان قريباً، راوياً، مقرفصاً، هامساً، متحدثاً، في البداية قائلاً: "لكي توفر لهم الدهشة، لا تخبر أصدقاءك بما حدث في نهاية هذا الكتاب". مما يجعله قريباً من قرائه، مخاطباً كأنما كل قارئٍ بمفرده على انعزال؛ حتى نهاية الرواية، كان متواجداً قريباً من قارئه بشكل لطيف دون أن يفسد بتواجده هيكلية الرواية.
لذا، يا قراء، حينما تقرؤون "لأنني أحبك"، لا تتوقفوا عن القراءة لأي سببٍ كان. فهي من الروايات التي يفضل أن تقرأ بجلسة واحدة لتكتمل ماهيتها لدى القارئ. فالتوقف عن القراءة و معاودة استكمالها، تكسر شيئاً ليس يسيراً من ماهيتها، و تشوهه من غير أن يعلم القارئ بذلك. لهذا، أتموا قراءة "لأنني أحبك" لغيوم ميسو في جلسة واحدة دون توقف حتماً.