| دخلته وافدة هاربة وعندما هجرته كتبته وطن |
قبل سنتين تقريبا ًكان الهواء الذي يخيم على مدينتي خانق , أمتدت سموم الهواء وتشعبت أكثر , و لأنني لا أستطيع طرد الهواء كان بين أناملي منفذ هروب من خلاله أعانق التنفس وأنسى الأكسيد القابع , ليس أكسيد لكن شبيه لذراته , وفعلت ذلك حتى دخلت في غيبوبة عن ما يحدث فيما حولي , دخلت وخلال الشهرين الأولى تمكنت من التعايش في العالم الجديد بل لقيت راحتي في غيومه تمطر كل ليلة ليلا ً, متى ما أرد البكاء نمت في خيال صدرها و أسكبت الحنان كصدر أم حنون , حتى أدمنت ذلك المنفذ المُهدد بالانهيار في أي وقت واستهويت تلك الغيبوبة طوال السنتين , متى ما أرد النوم عُد لسريري و منفذي يشاركني نفس المساحة , فالنوم موت مؤقت يُنسيني جمهرة التنفس الخانقة و فور ما استيقظ أمتطى صهوة منفذي لترحب بي جنود الغيبوبة حتى تسدل صفائح الليل في ساعته الأخيرة ما قبل الفجر .
مهنتي كانت كتابة الرسائل دون تغليف مكلف , عنوانيها مختلفة والمضمون واحد , كُنت على سجيتي أرسل ولا أبالي , راقت لي المهنة كثيرا ً, أجُرها دفع الحزن لكن سرعان ما ينقضي و أعود أرسل لأكسب أجراً بالساعة بعد أن كان باليوم حتى باتت كتاباتي استهلاكية تحتفظ بروح مهنتها .
رسائلي تلك تُعبر عن شعور الاختناق بحنين لرجل يسكن داخلي , رجلاً لم يُكن بالأصل في واقعي , رجلاً من زمن آخر , تخر لديه كل الإناث , رجلاً هجرني وبقيت من خلف أسوار السجون أناجيه العودة لكن لن يعود.
كان هذا التعبير المغلف للألم فقط أو الصيغة الرمزية التي لا تظهر سرها وتبعث الحزن على شاكلة أخرى يبدو لي أجمل من تشويه معاني الهواء التي تدوالتها كُتبنا وعرفناها مُنذ المهد , لقد غدوت ماهرة فالليالي جعلت جنود المنفذ يهوين معي السمر على رائحة الحزن المنبعثة .
لقد مرت السنة الأولى على هذا الحال , لم أكُن أعلم إن هذه السنة قد بنت بوريد أحدى الجنود جسرا ًيخبئ ملامحه وأمنيته نصب طرف الجسر الثاني داخل وريدي , لم أكٌن أعلم بأن أحدى حروف الرسائل ستنحت شيئا ًداخله وتنبت أغصان لم تحاول يوما ًأن تتجرأ لميلها , فطوال تلك السنة لم أضع صور تخيل بذهنه بأنني تلك الفتاة باهرة الحسن ولم أتخلى عن أخلاق بنت الريف , ولم أترفع عن عادات و تقاليد جميلة وعُرف في دينه الحياء خير وقار , بقيت كما أنا أصطحب عباءتي عند كل عتبة , لما توالد لديه بناء جسر يرتكز على عمود فقط ؟ .
مرت الأيام وذلك الجندي لا يفصح لكن مرسى الرسائل يفضح عيونه العفيفة , خطيئته الوحيدة طرد قالب الرمزية , كان كبحر هادئ لا تعرفه الأمواج , يخبئ بين جنبات قلبه ما قد عرفته , ومحبته للسامر كانت كصديق خائن أفشى السر , نام وأيقظته أفواه الناس تغرد بسره , لم يعير ذلك اهتمام , لأن ما حصل كان مساعد لسُحب قلبه إن تمطر , لكن مازال و مازلت أرقبه بعدما توقفت عن بعثرة الرسائل , أقرء تفاصيل سطوره وأبتسم ليس من باب نكر النساء , فقط لأن ذلك بعد قرابة الخمس شهور استطيع شيء فشيئاً إن يحقق حلمه لينصب العمود الثاني .
السنة الثانية كانت غامرة دفء رغم إن الشتاء حاضر , كان الربيع صديقاً عزيز في بعثرة الخريف يؤنس جفافي , لم يكن بيني وبينه تواصل , هو إلى الآن لا يعرف بأن جسره أكتمل بنائه , فقط الإحساس بأنهم جانبنا يدغدغ الأنهار لتجري ضاحكة والأمسيات تتغزل بها .
لم أشرع النوافذ , وهو لم يقفل أبوب قلبه , محاسن نفسه , وبقى صامت عن نبضاته , ليس إلا أن كل ما في الأمر كان يخشى رفضي فهو يعي جيدا ًقناعاتي وهذا ما جعلني ألبس الجسر كل صباح أطواق ياسمين لا تنضب .
مرت فترة ليست بقصيرة على امتداد ذلك , تم تخطى كل الحواجز إلا حاجر أللاعتراف .! ليس لكبرياء منه و ليس لغروري و أنما لخجل ولقناعة تراودني أبعادها تمتد بي لأكثر , ركُن هناك أحساس مطمئن للطرفين لكن لم يلبث كثيراً حتى يباغته شهراً ثقيل , شهر ديسمبر من السنة الثانية , شهراً أطبق على الأنفاس , شهراً أوقف أجهزة تطالب بالضرائب عند كل منفذ دون وجه حق بما حال بيني وبينه , لأصحو من غيبوبتي على حزن آخر , لا يبحث عن الأكسجين لأن ببساطة العضلة التي تتنفس تركت لديه والعضلة التي تنبض مرافقة لها وغادرت دون كتابة الرسالة الأخيرة .
لا تلؤمني ليس جحود , فالمكان الذي جمعنا دخلته وافدة هاربة و لما هجرته كتبته وطن لأجلك و سأكتبه حتى تغرد هذه الروح بقناعة قلب وقبله فكر أيقن بأن القناعات ستكون مرنة أكثر كل ما تقدم بنا الزمن ؛
كتبتها هذا العام لكن سدونها بذلك العام , عام ثلوجه الآن تنصهر لأنصهر معها دموع لا ترضى الوداع , كتبتها لأقفل القلم فحبره الآن لا يفي لنا فليجف قلمك وينساني , تلك جناية الهواء المسموم وليست جنايتنا
خنقنا أول و ألحق بالتالي لتحيى أنصاف مبتورة تعرفها الأحزان وتبدد هو دون إن يدرك لنا أسباب لهم ومبررات لنا فالأفعال غير منطقية لها أسباب منطقية .
الشذى / سلمى الغانمي
15/5/1430هـ