احترفت الخوف، و الآن أحترف الحياة..
بقلم: ندى يزوغ
لقد احترفتُ الخوف كما يُحترفُ عزفُ آلةٍ موغلة في الحزن..!
كان للأسف رفيقي، ظلّي، طقسي الصباحي في سنوات عدة. أمارسه دونما سبب، كأنما صار عادةً متأصلة في جسدي، كأنفاسي التي لا أستأذنها. ومن هذا الاعتياد المُمض، مارست عنفًا ناعماً ضد ذاتي، وجّهتُ بوصلتي نحو جلدٍ قاسٍ وقمعٍ صامت، وتبخيسٍ مستتر في طيّات حديثي الداخلي.
لماذا تعلّقتُ بأشخاصٍ لم يلتفتوا لي إلا لماماً؟ لعلها هشاشتي التي أزهرَت في داخلي خرافةً مؤلمة: أن لا أحد سيحبّني كما أنا، أن لا أحد سيقف لأجلي إن سقطت.
فاحتجتُ لتعلّقٍ أبرّر به غربتي عن ذاتي.
كم كنتُ جائرة بحق نفسي حين أعميتُ بصيرتي عن نُبل جوهري، عن حدّة ذكائي، عن سرعة بديهتي، عن ذكاءٍ عاطفيٍ واجتماعيٍ يغلفني كعباءةٍ من نور.
أنا التي لا تزعم الكمال، ولا تدّعي الغرور، لكنني أحمل في جعبتي مهاراتٍ تشهد بها التجارب، وتزكيها الأيام.
دراستي الجامعية في اللسانيات العربية لم تكن وقودي الوحيد. لم أؤسس بها شخصيتي، بل كان بنائي الثقافي كالسهل الممتنع، منوّعًا، متشعّبًا، ينهل من منابع شتى، تتداخل فيه أصوات الشعراء، وتأملات الفلاسفة، وأسرار الكتب.
كنت أحلمُ أن أكتب بالفرنسية، أن أصنع لنفسي مكاناً في عالم الصحافة، لكن الحياة ساقَتني إلى الكتابة بالعربية، إلى التدريس، لا بحثًا عن الشهرة، بل لأضمن لقمة العيش، وأقتطع من وقتي ساعاتٍ أتنفس فيها حريتي على الورق، فأحيا.
كانت الكتابة ملاذي، ملاذاً يشبه وقوفي أمام شاطئ المحيط الأطلسي، أو البحر الأبيض المتوسط، أنظر إليه وأقول: "ها أنا ذا، كبرتُ، وما زلت أُحب الحياة".
رغم ضيق ذات اليد، كنتُ أسافر. أخرج من مكناس أربع مرات في السنة، لا لأنني أملك الكثير، بل لأنني عرفتُ كيف أصنع من القليل متّسعًا للفرح. كان راتبي زهيدًا، لكني كنت غنية بروحٍ تتقن التفاوض مع الأحلام، وبعائلةٍ تضع الحب والكرم والتضحية أولًا.
زرتُ دولاً شتّى، وأحلم أن أزور المزيد. فالسفر بالنسبة لي ليس ترفاً بل ضرورة، هو مرآتي التي أرى فيها وجهي بوضوح، بعيدًا عن أصوات الماضي وخيباته.
وأؤمن أن للقدر حكمة، حتى في حرمانه، وربما كنت أنا من علّق وزر التأجيل على كتفيه، هربًا من اختيارات مؤجلة.
أحلمُ أن أكون كاتبةً تصنع فرقًا، تداوي بالحرف، تفتح أبوابًا كانت مغلقة. لا أكتب لأنال فقط تصفيقًا، بل لأُضيء أيضا دهاليزَ الآخرين، ولأمنح القارئ متّسعًا للتصالح مع ذاته، ليُقلب صفحات كتبي كما يُقلب صفحات عمره، بشغفٍ لا يهدأ.
أطمح أن أكون قناةً تنقل المعرفة، وسبيلاً للراحة والسكينة بعد كل حرف، وكل استعارة، وكل تشبيه. أكتب لأحيا، وأكتب ليحيا غيري.
لا أطلب شهرةً فارغة، بل أطلب نفعًا، موردًا حلالًا من نتاج عقلي وروحي. سيعارضني كثيرون، أولئك الذين يتوجسون من أحلام النساء، لكنني لن أفتح باب التراجع، لن أساوم على شغفي.
أريد أن أطوف الأرض، أن أتعرف إلى ثقافاتٍ شتى، أن أقترب من أناسٍ مختلفين عني، أن أمارس فضيلة الإنصات لا الحكم. أريد أن أتنفس أخلاقًا أكثر سموًا، أن أتتلمذ على موائد الحكمة، أن أتشبع بأطباقٍ فكريةٍ مُزينةٍ بما نشأت عليه من القيم.
أريد أن أتعلم لأُعطي، أن أملأ كأسي لأملأ كؤوس الآخرين، فمعيني لا أريده أن ينضب.
ما زلت هنا، أكتب، أتنفس، أؤمن أن الحرف خلاص، وأن الحلم إذا ما رافقه إصرار، يصير واقعًا يُشبه البحر… عميق، واسع، لا يُحدّ.