مَحبَّتي، يا محمود، لروحكِ المُحبَّة، وللحضور الجميل.
ولي عودة، إنْ شاءَ الله، تليقُ بأرواحهم الرَّاقية وبحضورهم الأنيق.

المحبَّةُ الطَّاهرةُ من الله، وكلُّها خيرٌ، ولا تأتي إلَّا بخيرِ. والمحبَّةُ في اللهِ نِعْمَةٌ عظيمةٌ ورِفْعَةٌ ومَنَعَةُ... وفي المحبَّةِ الصَّادقةِ لا يكونُ الهجرُ إلَّا جميلًا، والفراقُ لا يكونُ إلَّا جليلًا، مهما كانتِ الخسارةُ فادحةً والمصيبةُ عظيمةً والألمُ هائلًا والصَّدمةُ شديدةً. يرحلُ المفارقُ بسلامٍ وسكينةٍ، بسترٍ سابغٍ، وبصمتٍ وقور، صابرًا، مُحتسبًا، حافظًا للودِّ، وذاكرًا للفضلِ، غيرَ جاحدٍ ولا ناقمٍ ولا كنودٍ.
عندما نفشلُ في الحبِّ، يا صديقي، فإنَّنا لا نخسرُ الحبيبَ بوصفهِ، فقط، حبيبًا، إنَّما بوصفهِ، أيضًا، أخًا أو أختًا، وأبًا أو أمًّا، وصديقًا، وحليفًا، وشريكًا... فالمحبَّةُ الحقيقةُ حياةٌ كاملةٌ، حياةٌ يكونُ فيها الحبيبُ حبيبًا لبعضِ الوقتِ، وروحًا طَوَالَ العمرِ. ولا تَبطشُ بقارورة العطرِ، ولا تُحطِّمُ أواني الزَّهر والمرايا، غيرُ الكرامةِ المجروحةِ وخيبةِ الأملِ الموجُوعةِ. تنتصرُ الكرامةُ لكبريائها، وتثورُ على ضعفها وتضعضعها. وتعصفُ الخيبةُ بالثِّقةِ وبالظَّنِّ الآثمِ والحسنِ معًا. ثمَّ تتراجعُ النَّفسُ، واجمةً من هولِ الفاجعةِ، إلى صومعتها، لتنطوي على ذاتها في شرنقتها، زاهدةً بكلِّ شيءٍ، ومُغَلِّقَةً الْمَنَافِذَ إليها كافَّةُ، فإمَّا موتٌ بطيءٌ، بعدَ ذلكَ، وإمَّا بعثٌ حقيقٌ.
القلوبُ العاقلةُ مُتْعِبَةٌ، يا صديقي، ومُتْعَبَةٌ في آن! أحيانًا، يقفُ الحبُّ المُتَبَادَلُ على قدمٍ واحدةٍ، وأحيانًا، بجناحٍ واحدٍ يُحاولُ أنْ يطيرَ، لكنَّه، في فرارهِ الأخيرِ صوبَ المجهولِ، لا يتجاوزُ عتبةَ القلبِ ولا بوابةَ الذَاكرةِ. ينجو الحبُّ، وإنِ افتقرَ إلى الحكمةِ، ومن دونِ الصَّبرِ يهلكُ لا محالةَ. والحبُّ الصَّادقُ يبقى في القلبِ، شئنا أم أبينا، حيًّا أو ميِّتًا، يبقى وإنْ هيكلًا هزيلًا أو عظامًا نَخِرَةً أو ظِلًّا مُعْتِمًا أو طَيْفًا من غُبارٍ ودُخانِ.
النِّسيانُ التَّامُّ مُستحيلٌ، ولا يلجُ النِّسيانُ المُسْتَطَاعُ في الذَّاكرةَ إلَّا في غفلةٍ مِنَّا، وإلَّا من النَّافذةِ، وغالبًا من نافذةٍ مُطْفَأَةٍ ومُهْمَلَةٍ، أو من كوَّةٍ صغيرةٍ قَصِيَّةٍ ومَنْسِيَّةٍ. إنَّه النِّسيان الرَّحيم يتسلَّلُ إلينا، يتلطَّفُ بنا، ويحنو علينا، يُحيِّدُ الذِّكرياتِ المُؤلمةِ، ويُرتِّبُ الفوضى العارمةِ، ويمسحُ على صدرِ الخلايا النَّشِطَةِ فتصيرُ خاملةً، وعلى المُؤذيةِ فتصيرُ آمنةً. ثمَّ يربِّتُ على ما فينا من موتٍ، فتدبُّ فينا الحياةُ، ومن جديدٍ قد ننبعثُ، وننعتقُ، وكما النُّسورِ ننطلقُ وعاليًا نُحلِّقُ.
ثمَّة محبَّةٌ عمياءُ، تعيشُ في قلوبنا، يُخَيَّلُ إلينا من سحرها أنَّها الخلاصُ والنَّجاةُ وهي الهلاكُ المُحقَّقُ والخرابُ. وثمَّة بغضاءُ تعشِّش في صدورنا، يدُها الآثمةُ طويلةٌ، لكنَّ عُمْرُهَا قصيرٌ، وكيدُهَا ضعيفٌ وذليلٌ. وبين موتٍ وموتٍ، تُعانقنا الحياةُ بحرارةٍ، كأنَّها تُودِّعنا. نحنُ صورٌ تذكاريَّةٌ على جدارِ الزَّمن، تتكشَّفُ للعابرين شيئًا فشيئًا، ثُمَّ بالتَّدريجِ تتلاشى، لكنَّنا لا نفنى إلَّا إذا ماتَ الحبُّ فينا وبقيتِ البغضاء. نُخطئُ، ومن أخطائنا نتعلَّمُ، ولا بدَّ لنا من أنْ نُخطئَ، كي لا نفقدَ إنسانيَّتنا والتِّمثالُ فينا يطغى علينا، يستبدُّ، ويتسيَّد، حتَّى يبتلعنا، ثمَّ تستعبدنا الأصنامُ وعلينا تتسلَّط.
العجيب، يا ابن النيل، أنَّ الكراهيَة هي الوجه الآخر للحبِّ! الحبُّ هو الأصلُ، والكراهيةُ من صنعنا، وعن قصدٍ أو عن غيرِ قصدٍ، قد نقعُ على الوجهِ المُظلِمِ، فنعلقُ، وقد بُكلِّيَّتنا نغرقُ، ما لم يتدراكنا الله بلطفه ورحمته.
وممَّا قلتُ في: "نَائِلُ... لَوْنٌ خَدِيْجٌ ورَائِحَةٌ نَيِّئَةٌ"
يَا نَائِلُ: نَقْتُلُهُمْ، أَبْطَالُ رِوَايَاتِنَا، نَقْتُلُهُمْ، دُوْنَ رَحْمَةٍ، وَلِمُجَرَّدِ الْمُتْعَةِ، لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، وَبِأَبْسَطِ الْأَدَوَاتِ، بِالْمِمْحَاةِ، مَثَلًا، أَوْ بِالثِّقَابِ. وَكَذَا يَقْتُلُوْنَنَا، إِذَا مَا تَمَكَّنُوْا مِنَّا، وعَلَيْنَا قَدرُوا. وَبَعْضُهُمْ يَتَحَوَّلُ، فِي رُؤُوسِنَا، إِلَى شَيَاطِيْنَ تَؤُزُّنَا وتُفَجِّرُ فِيْنَا الْجُنُوْنَ والْفَوْضَى.
يَا نَائِلُ: كُلُّ أَلْوَانِ الْحُبِّ مُخَادِعَةٌ، حَتَّى الأَبْيَضَ، وَكُلُّ لُغَاتِهِ كَاذِبَةٌ، وَأَكْذَبهَا الدَّمْعُ، ذَاكِرَتُهُ تَخُوْنُ، وَقَرِيْحَتُهُ تَخُوْنُ، وَدَوَاتُهُ، وَمِمْحَاتُهُ، وَأَصَابِعُهُ، وَأَضْلَاعُهُ، وَرَقَصَاتُهُ، وَسَكَنَاتُهُ، وَشُمُوْعُهُ، وَعُطُوْرُهُ، وَقُبَلُهُ، وَوُرُوْدُهُ، وَمَرَايَاهُ، وَهَدَايَاهُ، وَصُوَرُهُ، وَظِلَالُهُ، وَسَجَائِرُهُ، وَجَرَائِدُهُ، وَمَقَاعِدُهُ، وَقَهْوَتُهُ، وَشَمْسًهُ، وَقَمَرُهُ، وَصَحْوُهُ، وَمَطَرُهُ، وَحَقَائِبُهُ، وَمَوَانِئُهُ... كُلُّهَا، كُلُّهَا تَخُوْنُ، وَأَخْوَنهَا جَمِيْعًا: شَالُ الْحَرِيْرِ، وَالْمَنْدِيْلُ، وَصُنْدُوْقُ الْبَرِيْدِ، وَالسَّرِيْرُ، وَعُلَبُ الدَّوَاءِ، وَالسُّعَالُ، وَالأَرْصِفَةُ الْـ تَقْذِفُ بِكَ بَغْتَةً فِي قَلْبِ الْعَاصِفَةِ، عَاصِفَةُ الْأَسْئِلَةِ الْغَبِيَّةِ وَالْإِجَابَاتِ الْعَقِيْمَةِ، كَأَنْ تَسْأَلَ نَفْسَكَ -وَقَدْ سَحَقَتْكَ الصَّدْمَةُ-: مَا الَّذِي حَدَثَ؟!
محبَّات
وإلى حين عودة
أتمناكم بالخير تنعمون
