هناك في البعيد نصبح أُناساً آخرين نغيّر من طبائعنا ونلبس أثواباً غير أثوابنا التي كُنّا بها نعيش، فيصبح الرجال كلهم لعوائلنا محارم يجلسون إلى جوار بعضهم البعض, يأكلون ويضحكون ويخطّطون معاً لرحلات طويلة، يتقابلون في أتوبيس واحد يتبادلون التحيّات ويلقون على بعضهم السلام، تجمعهم المقاهي والمطاعم وردهات الفنادق والأسواق. هناك نتنازل عن الصرامة والشدّة والحدّة والتسلّط والغضب، نرسم بسمة المحبة والرضا ونصبح طائعين سهلين لينين هاشين باشين، نستخدم الإتكيت ونُحسّن السلوكيات ونطبّق مكارم الأخلاق.
هناك نمارس الإسلام الصحيح كما تلقيناه من نبعه الصافي الكريم، نمارس الصدق في القول والإخلاص في العمل، نبتسم ونعتبر تبسمنا صدقة في وجوه الآخرين نرد السلام على من نعرف ومن لا نعرف، نمارس النظافة على أصولها، لا نرمي بالعلب الفارغة في وسط الطريق حتى المنديل نضعه في المكان الصحيح. نجسّد الأمانة وكل القيم التي حثّنا عليها ديننا الحنيف لا نكذب ولا نتجمّل، نقف للكبير ونساعد العاجز والمريض، نحترم المرأة ولا نضايقها في الطريق، نعرف العيب ونتعامل مع الجميع. نسهر حتى الصباح نتمايل مع الأنغام ونحفظ القاموس المحيط بأغاني القريب والبعيد، نمارس الحياة على طبيعتنا وفطرتنا وزي كل الناس... حتى إذا ركبنا الطائرة عائدين لبسنا أثوابنا الحقيقة وكشّرنا عن أنيابنا ورسمنا على وجوهنا الصرامة والكآبة مبتدئين الشجار والنقار مع المضيفين والمضيفات فهي ترفض أن يكون مقعدها في الطائرة بجوار رجل لأنه ليس من المحارم، وهو لا يرضى إلاّ أن يكون بجانب أسرته فمن العيب أن يبقى في المقعد الخلفي أو الأمامي دونهم!، والثاني ترك حمام الطائرة بركة مياه، والأطفال انفلتوا من عِقالهم وجعلوا من الطائرة ملعب كرة قدم دون مراعاة للآداب والآباء والأمهات في نقاش وشِقاق افتكرت أن عينيه كانتا زائغتين هنا وهناك وأنها ساكتة وصابرة حتى لا يُقال انها نكدية، والبنات انشغلن بإخراج الطرح والعبايات واحترن هل يضعنها على الكتف أم الرأس وشيئاً فشيئاً تغطّت الرؤوس والوجوه وظهر اللوفيتون والشانيل وارتسمت على الوجوه علامات القرف والنكد والضيق وتأهب الجميع للانطلاق وتكدّسوا عند الأبواب والمايكرفون يلعلع بضرورة البقاء حتى لا تتعرّض الأرواح لما لا يُحمد عقباه..
هذه صورة مصغّرة لما نقوم به من تناقضات في فترة زمنية من عمرنا. فهل هناك تناقض أكثر من هذا الذي نعيشه!! أرحموا أنفسكم وكل من أحاطت به شقفة قلوبكم وجدار بيوتكم فسندفع الثمن غالياً مع الأيّام.
بقلم : نجيب يماني
عكاظ ...