مدخل إلى قصيدة النثر
===========
حسام الدين بهي الدين ريشو
===============
توطئة :
من نافلة القول أن نقول أن الشكل الفني للقصيدة الشعرية العربية بدأ بالشكل العمودي ثم قصيدة التفعيلة وأخيرا قصيدة النثر
وربما من هنا قال الدكتور شوقي ضيف :
" الشعر لا يخضع لقانون خاص كقوانين العلم ولا أصول ثابتة كأصول الدين . "
ويضيف الدكتور جابر عصفور :
" إن الشعر إنما يُنظر إليه من ناحية تأثيره فحسب "
وهو ماجعلنا نتساءل :
هل أخطأ القدامى حين فرقوا بين الشعر والنثر بمقولة :
" الشعر كلام موزون مقفى له معنى "
وكان الأولى ان يقال شعر موزون ؛ وشعر منثور خاصة إذا اخذنا في الإعتبار مايلي :
ا- ألفية إبن مالك وهي قمة الكلام الموزون المقفى الذي له معنى ومع ذلك لم يقل أحد أنها شعر
ب- مارواه عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة :
" ان عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجع إلى أبيه وهو صبي يبكي ويقول :
لسعني طائر فسأله حسان أن يصفه ؟ فقال " : " كأنه ملتف في بُرْدَى حبره وكأن لسعه زنبور "
فصاح حسان :
قال إبني الشعر ورب الكعبة
وقد علق الجرجاني على هذا الموقف بأن التشبيه يدل على قوة الطبع
هذه الرواية كما يقول الدكتور مصطفى الجوزو تقفنا على أمرين :
الأول أن حسانا عد ماقاله ابنه شعرا ولم يكن موزونا أو مقفى ولم يتميز إلا بالتشبيه
الثاني تبنِي الجرجاني لهذا الموقف جاعلا التشبيه وحده دليلا على الإستعداد الشعري
فهل يعنى ذلك أن الوزن والقافية لم يعدا عنصرين أساسيين للشعر إلا بعد القرن الأول الهجري ؟
ج- وهو الأهم :
أنه حينما نزل القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم إتهمه المشركون بأنه شاعر على الرغم من أن القرآن ليس منظوما في القوالب التى رصدها الحليل ؛ وليس شعرا
وهذا يدل على أن العرب القدامى كانوا أكثر فهما لجوهر الشعر عنا
وأن من قسم الكلام إلى شعر ونثر أخطأ ؛ فالكلام إذن ليس شعرا ونثرا بل نظم ونثر ؛ فالنظم يقابله النثر والشعر بذلك قد يكون منظوما أو منثورا
قصيدة النثر
قصيدة النثر شكل أدبي مستقر منذ أكثر من قرن في المشهد الشعري العالمي ومايزيد عن نصف قرن في المشهد الشعري العربي
وهي في منجزها العربي يعود ظهور المصطلح " قصيدة النثر " إلى عام 1960 مع ظهور مجلة شعر للدلالة على شكل شعري جديد أُعتبر حينها بمثابة ثورة على عمود الشعر العربي في بعده الايقاعي خاصة .
ظهر ذلك عن طريق أدونيس ؛ وأنسي الحاج تفاعلا مع المرجع العمدة في هذا الشكل وهو كتاب سوزان برنارد ( قصيدة النثر من بودلير إلى الآن )
لكنها في الحقيقة مرت بمراحل عديدة قبل سوزان برنارد
ربما كانت بدايتها عربيا في محاولة التحرر من الايقاع الخليلي في فترة مبكرة من القرن التاسع عشر بما أطلق عليه الشعر المنثور ( نيقولا ماضي - جبران -خليل مطران - أمين الريحاني - ميخائيل نعيمة - احمد شوقي في اسواق الذهب ثم مدرسة أبوللو الشعرية ( أحمد زكى أبو شادي - مي زيادة - حسن عفيف ) إلى أن جاءت مجلة شعر ( توفيق صائغ - محمد الماغوط - أنسي البحاج - أدونيس - شوقي أبو شقرا - يوسف الخال - جبرا ابراهيم جبرا - ابراهيم شكر الله - بدر الديب - محمد آدم ... وغيرهم)
ومن الجدير بالذكر أن الأديب الناقد الراحل رجاء النقاش يقول " ولست أشك في أن وقفة الرافعي ضد قيود الشعر التقليدية كانت أخطر وأهم وقفة عرفها الأدب العربي في تاريخه الطويل وأهمية هذه الوقفة أنها كانت حوالي 1910 أي قبل ظهور معظم الدعوات الأدبية الأخرى التى دعت إلى تحرير الشعر العربي تحريرا جزئيا أو كليا من القافية والوزن
وأزعم أيضا أن الشاعر المصري حسين عفيف هو أول من وضع لها أسسا وشرحها في محاضرة له في نادي موظفي الحكومة بالأسكندرية في يوم 13 ديسمبر 1936 قال فيه :
ورب معترض يقول أن الأوزان الاصطلاحية لازمة للشعر والجواب عن ذلك أن الشعر أسبق من الاوزان لأن الأوزان من صنع البشر في حين أن الشعر وُجِد مع الحياة ومادام استطاع أن يعيش حينا من غير أوزان فهو بعدئذ يستطيع ان يعيش بدونها "
من الملاحظ بعد كل ماسبق أن قصيدة النثر ومنذ أوائل التسعينات وحتى اليوم تحتل المقعد الأول في خريطة الاعلام العربي المرئي والمكتوب
ومن الجدير بالذكر أنها لم تكن نزوة شعرية طارئة من هذا التاريخ بل هى امتداد لظاهرة النثر الفني في القرن الرابع الهجري وهو المحطة الاولى لإلتقاء الشعر بالنثر ( ابن العميد - الصاحب بن عباد - بديع الدين الهمزاني ومن قبلهم الجاحظ في القرن الثاني والمويلحي )
أسباب ظهور هذا المصلح
أرجعها أدونيس إلى مايلي :
1- الرغبة في التحرر من نظام العروض الخليلي الذي ظل حاجزا نفسيا يقف ضد كل تجديد أو تطوير في الشعر العربي
2 - الرغبة الجامحة في التخلص من كل مايمت إلى الأشكال والقواعد الموروثة بصلة
3- التوراة والتراث الادبي القديم في مصر وفي بلدان الهلال الخصيب تراث يتميز بكتاباته النثرية ذات النفس الشعري
4- ترجمة الشعر الغربي ... فالقارئ العربي يعده شعرا على الرغم من تحرره من الوزن والقافية ويتحسس أبعاده الشعرية المتولدة عن الصورة ووحدة الانفعال
واضافة إلى ماقرره أدونيس
فلا شك أنها القصيدة التى انطلق من خلالها الشاعر ليتحرر من الوزن العروضي الخليلي ومن وحدة القافية التى تفرض عليه أحيانا إيراد كلمات قد لا تكون عميقة الدلالة في المكان الذي جاءت فيه ولكن ضرورة الايقاع العروضي أو لزوم القافية جعلها مفروضة في السياق الشعري دون أي خيار آخر
ولعل هذا ماجعل البعض يقول :
العروض لم يسئ إلى شعرنا فقط بل قد أساء إلى أدبنا بشكل عام فبتقديمه الوزن على الشعر قد جعل الشعر في نظر الجمهور صناعة إذا أحاط الطالب بها وبتفاصيلها أصبح شاعرا
أو كما يقول ميخائيل نعيمة ساخرا
الذين جاءوا بعد الخليل فتقيدوا بزحافاته وعلله 1200 عاما فإياهم أسدي جزيل شكري لأنهم بمباراتهم في معرفة صحيح أوزان الشعر وفاسدها قد أتقنوا الأوزان وأهملوا الشعر .
تعريف قصيدة النثر
تعددت التعريفات :
1- لعل أبسطها أنها
القصيدة المكتوبة نثرا في تدفق متواصل وغير مقطع
2- هي قصيدة شعر النثر الموازي لشعر الوزن
3- هي القصيدة الخالية من الوزن والقافية أي قصيدة مابعد الوزن تُكتب في سطور حرة قد تطول وقد تقصر حسب تدفق وايقاع التجربة
4- يعرفها أنسي الحاج
هي القصيدة التى خذلت كل مالا يعنى الشاعر ؛ استغنت عن المظاهر والانهماكات الثانوية والسطحية والمُضَيِعة لقوة القصيدة ورفضت كل مايحول الشاعر عن شعره لتضع الشاعر أمام تجربته مسؤولا وحده كل المسؤولية عن عطائه فلم يبق في وسعه التذرع بقساوة النظم وتحكم القافية واستبدادها .
5 يعرفها محمود درويش
هي جنس أدبي قديم جديد مستقل عن الشعر والنثر
6- تعرفها سوزان برنارد صاحبة المصطلح :
قصيدة النثر كتابة خنثى مثل الورد الجوري لأنها تجمع بين الشعر والنثر ( أي أنها ذكر وأنثى = الانسان الكامل )
7- يعرفها الاديب واستاذ النقد العربي عز الدين المناصرة
نص شعري تهجينى مفتوح على الشعر المنثور والسرد الفني عابر للأنواع .. يفتقد إلى البنية الصوتية المنظمة لكنه يمتلك إيقاعا داخليا غير منتظم من خلال توزيع علامات الترقيم ومن خلال البنية الدلالية المركبة على بنية التضاد وجدلية العلاقات في شبكة النص التى تخلق الايقاع الخفي
أشكال قصيدة النثر
لها شكلان :
1- الشكل السطري
2 شكل الفقرة النثرية العادية
ملامح قصيدة النثر
1- اللغة المشهدية الساعية نحو تحقيق المفارقة المدهشة
2- كثافة واختزال اللفظ فالايجاز هو مطلبها
3 تنحو في بنائها نحو ايقاع مفاجئ يقوم على التوسل بالشيئ المتوقع ليفاجئ القارئ باللامتوقع
4- ظاهرة التمركز حول الذات الشاعرة التى لاتحفل بشيئ حوله وتميل الى التمرد
5- رفض الشكل أو الثبات على شكل ما كما نجده في القصيدة التقليدية
6- اللغة فيها تتحرك في علاقات على صعيد الصور والجمل والتراكيب المتصادمة غير المألوفة المتدفقة دون حواجز مع قدرتها على أخذك وادهاشك
7- التكثيف - الاقتصاد اللغوى ابتعادا عن الحشو والترهل
8أنسنة المادي والأشياء وتشيؤ المؤنسن بمعنى الدلالة المتعاكسة
9- كتابة شعرية تقدم في سياق نثري باحثة عن تراكيب جديدة ودلالات ومعان غير معهودة تتحقق من خلالها الوحدة العضوية للنص
10 يضيف أدونيس
أن هذا الشكل الجديد ينبنى على الجملة اللغوية بوصفها وحدة لغوية صغرى بدل البيت أو التفعيلة التى بُنِيت عليها الأشكال السابقة
المعايير الفنية أو الخصائص لقصيدة النثر
ثلاثة معايير أو خصائص اساسية حددتها سوزان برنارد لقصيدة النثر
أولا : الوحدة العضوية
بمعنى أن تكون كلٌ غير خاضع للتجزئة أو الحذف أو التقديم والتأخير بين مكوناته لأن شأن قصيدة النثر كشأن أي نص إبداعي آخر عبارة عن بناء يصدر عن ارادة واعية لدى المبدع وليست مادة متراكمة تراكما غفلا .
ثانيا : المجانية
بمعنى أنها شكل غير خاضع لأي أنماط سابقة ولا علاقة له بكل أشكال الكتابة المعروفة من نثر وشعر ورواية
أي أنه مجاني ( بلا مقابل / لازماني وغير خاضع لأي أنماط مسبقة وإن كانت لديه القدرة على احتوائها وإعادة تقديمها ضمن بناء قصيدة النثر ذاتها برؤية وروح جديدين حتى ولو وظف تقنيات هذه الأشكال فهو شكل جديد لاغاية له خارج عالمه المغلق وبذلك صار مجاني ولا زماني
ثالثا : الكثافة
ويقصد بها الإبتعاد عن خصائص النثر من استطراد وايضاح وشرح واطناب مع الاستفادة من الكثافة الشعرية في اللغة واشراقته التعبيرية متلافية الوعظ الخلقي والتفصيلات التفسيرية لأن قوتها الشاعرية تتأتى من تركيب مضئ يتخذ من الايجاز مذهبا وأسلوبا وبعبارة أدونيس ( أنه كتلة مشعة مثقلة بلا نهاية من الايحاءات قادرة على أن تهز كياننا في أعماقه
خاتمة :
من كل ماسبق نستطيع أن نقول :
أن قصيدة النثر ليست جنسا غريبا
فهى امتداد طبيعي لما كان ؛ فالشعر هو شعر مهما تغيرت الأساليب
والاوزان الخليلية ليست مقدسة فقد وضعها بشر في حقبة ما وما يضعه البشر قابل للتطوير والتجديد والحذف وما إلى ذلك من عمليات بشرية
وقصيدة النثر ليست بديلا ولا تعرض نفسها كبديل يقوم على رفض الآخر
ولأن كل فن فيه السيئ والجيد كما هي قصيدة الوزن لاتصل إلى الكمال ... قصيدة النثر كذلك
وكما في قصيدة الوزن متطفلون ؛ في قصيدة النثر نرى ذلك وربما أكثر من ذلك لاستسهال الموضوع ... والزمن كفيل بالتصفية
ومن هنا فإن كاتب هذه السطور يرفض عقلية التفاضل بين الأشكال الشعرية ( عمودى - حر - نثر - عامي ) ... فلكل شكل شعري طعمه الخاص وبصمته الخاصة
مابعد الخاتمة :
يقينا ومهما تعددت الرؤى فهناك اتفاق على أن الشعر
تساؤل يريد جوابا وهو يختلف بداية عن الفكر والعلم لأن الفكر والعلم هي أجوبة على تساؤلات مطروحة
ولذلك كان الشعر مرتبطا بالذات الفاعلة بالدرجة الأولى ... ذات الشاعر وذات المتلقي ثم بالحركة في الدرجة الثانية وهى حركة ذاتية تعنى التجاوز أي الرفض المبني على الرؤيا لخلق صورة جديدة للعالم
ومن هنا بالرغم من التعريفات الكثيرة التى أحاطت بمفهوم الشعر .. لم يستطع أحد وضع صورة نهائية لها
ربما لأن الشعر هو أقرب الفنون إلى اللاشعور
فهو أصدق ترجمة لحظية للاشعور المتدفق في لحظة انفعالية أقرب إلى اللاوعي منها إلى الوعي
فهو إذن ليس الاحساس أو التجربة أو الانفعال ؛ بل هو الصياغة اللغوية النهائية التى تروض الانفعال للمعنى
بهدف اعطاء دفقة شعورية تعيد السكينة للأنا المزدوجة لكل من الشاعر والمتلقي بغرض مصالحة مع الأنا أو اعطائها قدرة على مواجهة حالة القلق التى تمر بها
والفرق الجوهري بين أنا الشاعر وأنا المتلقي هو أن الشاعر يتعرف على بقعة القلق الخاصة به قبل هذه الدفقة الشعورية بينما لدى المتلقي تأتي بعد استقبال هذه الدفقة
وبهذا يكون الشعر وسيطا لنقل القلق بين اشاعر والمتلقي باتجاه واحد
ويتم ذلك من خلال فهم متبادل للشعور بينهما بأدوات لها قدرة على حمل وايصال هذه الدفقة الشعورية
الشعر إذن هو صورة اللغة الانفعالية
الشعر هو رؤية للعالم وتجربة روحية أكثر مما هو فن ومجموعة طرائق
والتجربة الداخلية للشاعر وموقفه أمام الكون هما اللذان يحددان الشكل الشعري الواجب استخدامه
.