[] ثقافة الأمثال [] *
لم تزَل الأمثال تلك الرسالة التي تتناقلها الشعوب فيما بينها ، و ينقلها الخلف عن السلف ، نظراً لما فيها من معاني غزيرة مأخوذة من تجارب الشعوب ، التي عاشها القائل واقعاً ، فأصبحت سائرة في كل جيل ، و ليست محصورة في شعوب دون أخرى ، و لا في أرض دون أرض .
تختلف الشعوب في ضرب الأمثال ، و في صياغتها ، فشعوب تصوغ الأمثال ذات الغموض لتُحمل على عدة معانٍ ، و شعوب تصوغ أمثالاً بوضوحٍ لتكون أبلغ في الدلالة ، و كذلك تختلف في مجال الأمثال مهنياً و فكرياً و خُلُقياً ، و كل الأمثال تصُبُّ في محلٍّ واحد وهو : البناءُ الصحيح للكيان البشري على التجارب المُعتبرة .
في الأمثال إيجاز في اللفظ و سعة في المعنى ، تجد ذلك في مناسبة الأمثال لكثير من الأحوال ، قد تكون المناسبة واضحة و قد لا تكون ، و لكن في النظر في أبعاد الأمثال نجد ذلك ، و لذا لا نقف كثيراً إلا على المعنى الذي جاءت الأمثال من أجله ، و ربما كان للمثل ارتباطه التاريخي بشيءٍ ما ، فتغيب عنا المعاني الأخرى ، مع كون هذه المعاني نحتاجها كثيرا في حياتنا اليومية و العملية .
إن كون الأمثال ثقافة أممية شعوبية تحتاج منا أن نقف على تلك المعاني الخفية في ألفاظها ، حتى نُدرك أبعاد ضرب الأمثال ، و يكون المَثَلُ مُحتملا أكثر من حال ، و يُفاد من ذلك الوقوف على المعاني الخفية انتهاضاً بالشعوب على ضوء ما قالته الأوائل ، حيث الأمثال مدرسة لفظية تحملُ مناهجَ حياتية كثيرة ، و في حصرها في ذات المعنى الذي ضُربت من أجله تحجير عليها و تضييق لسعة رسالتها .
كذلك من النظرة المتعددة لمعاني الأمثال كونها تحمل توظيفاً إيجابيا و آخر سلبيا ، فالمثَل " القناعة كنز لا يفنى " يوظَّف إيجابياً في أن يقف الإنسان عند الحدِّ الذي ينتهي إليه و يقتنع به و لا يطمع بغيره مما لا يناله ، و كذلك يوظَّف سلبياً في كون الإنسان يستعمله في حال عجزه عن بذل الجهد ، و في كونه يقتنع بالحال الراهن الذي هو فيه ، استسلاماً لافتراس الحياة ، و على هذا المثل يُقاس . إن أكثر الأمثال ، إن لم يكن كلها ، قد استعملها الناس فقط على المعنى الذي جاءت فيه ، و لم ينظروا لمعنى آخر هو جانبٌ مقابلٌ للمعنى الأصلي .
إننا حين نقف على الأمثال بتلك النظرة المتعددة المعاني نستغني بها عن كثير من الكلام الذي يُنسي آخرُه أولَه ، و ننتهي منه كما دخلنا ، ذلك لأن الأمثال في أصلها دستور من واقع الحياة ، و الواقع لا يكذب لا و يُزيِّف ، و الدستور يُطبَّق على أشياء كثيرة في الحياة ، كما القانون الحاكم ، و النظام القائد ، و واقع الحياة مختلف فليس على مسيرة واحدة ، و توظيف الأمثال في كل واقع من شمولية دستوريتها .
الأمثال تحتاج منا أن ننظر إليها اليوم نظرة شمولية ، ذات أبعاد في العمق المعنوي ، و التوظيف الحياتي ، لأنها موروث ثقافة أرضية ، و الثقافة رسالة كونية تهتم بها الشعوب كلها ، و يختلفون في التوظيف لها و الصياغة ، فمتى تكون منا النظرة العصرية للأمثال البشرية المنقولة من جميع الثقافات ، نظرة ذات أبعاد تناسب ثقافة الأمثال .
الرياض
__
* نُشر في " ملحق الأربعاء " الصادر عن جريدة " المدينة " في تاريخ 10/9/1429
> تنبيهٌ : أعتذرُ عن وضعِ رابطه لأنني لم أجده منشوراً في الموقع ، ربما لعدم التحديثِ .