برنامج شاعر المليون تظاهرة ثقافية رائدة , وهو بالقدر الذي خدم فيه الشعر , وفتح النوافذ المغلقة لانطلاق عدد من الشعراء المهمشين إعلاميًّا , أضرّ بالشعر من الجهة الأخرى , وسعى لخلخلة النسيج الإجتماعي في المنطقة حيث أحيا النعرات القبيلية المقيتة على حساب الدين والوطن , وساعد على هدر المال العام , وكرّس ثقافة " الهياط "والصراخ وأن كل من يحمل حنجرة رنانة وقادر على استمالة أكثر عدد من اللمستمعين والمصفقين يعدّ شاعرًا .
نعم خرج شعراء جميلون في هذا المضمار , كالسكيبي وابن ساقان وابن عبيان , وكان أول الذين خسرتهم المسابقة خميس المقيمي
هذه المقدمة ضرورية من وجهة نظري لسلامة الدخول , حول مشروعية أو عدم مشروعية سقوط شعر التفعيلة في هذه المسابقة .
شعر التفعيلة والشعر الحديث بشكل عام هو الذي نجح , فلو قدّم في هذا الارتباك الواضح لكيفية إدارة أو انتقاء لجنةالتحكيم لتعالت أصوات الرجعيين شعريًّا , والمرجفين في الساحة لرفض الشعر الحديث كليًّا , ولألقوا عليه كل تبعيات فشل البرنامج
الشعر الحديث جاء انقلابًا على أبجديات الوعي الموروث المتهالك كشعر المدح والفخر والوصف المباشر والغزل الساذج الممجوج والكلام التقريري المباشر المحشور بالحكم والأمثال , وما رأينا في هذا البرنامج رغم ومضات الجمال التي لا يمكن إغفالها , انزلاقًا في التعاطي مع الشعر , وضمورًا في كمية الوعي المأمول , في مثل هذا البرنامج الذي كنا نأمل منه الكثير والكثير , غير أن الأمل يحدو الجميع على أن يتجاوز القائمون عليه كل أخطاء وتعثرات هذه المرحلة خدمة للشعر الشعبي في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية , وهم أهل لذلك إن شاء الله .
هذا الكلام , يدفعني للنظر برؤية فاحصة للحالة المالية , أو الماكينة الإقتصادية الهائلة التي لم نستفد منها كشعوب وكأفراد في دفع الحركة التنموية في المنطقة الخليجية , قبل التشدق بتعميم هذا النموذج ( الذي لم يلد حتى الآن ) على المنطقة العربية ككل .
في بعض الأحيان ينتابني شعور مباغت لتصديق ما يقوله، أو يروجه عنا بعض أخوتنا العرب من خارج الدائرة النفطية، والكثير منهم تحركه عقدة النقص الممزوجة بشيء من وهم التفوق والإحساس بالفوقية، حول الهدر العام للمال العربي الذي يعتبر من مكتسبات الأمة، هذه الأموال الطائلة التي تصرف على القنوات الفضائية المهتمة بالتراث والثقافة والشعر الشعبي في منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، استنزاف لثروات الأمة وطاقاتها المادية الطبيعية، وهي بأمس الحاجة إليها خاصة في مثل هذه الظروف. فلو كان أصحاب رؤوس الأموال جادين في نشر الوعي وتعميم الثقافة لتبنوا طباعة ونشر دواوين الشعراء الشعبيين، لا سيما المبدعون منهم الذين " شابت لحاهم " وهم يكتبون وينشرون ويثرون الساحة الشعبية بكتاباتهم وقصائدهم، وبعضهم من يتخطفه الموت وهو لم يرَ أي نتاج شعري مطبوع له، فحبذا أن يلتفت أصحاب رؤوس الأموال والمالكون للقنوات الفضائية الشعبية على وجه الخصوص لهذه النقطة، ويُعاملوا الشعراء الشعبيين كما يُعامل زملاؤهم الشعراء في بعض الدول العربية الشقيقة، فرغم كثرة الشعراء الشعبيين نشاهد قلة الدواوين المطبوعة لهم، بل ندرتها، ولو خرج أي ديوان ورأى النور فلا يكون إلا بمجهود فردي من صاحبه، لهذا نكاد نفهم عقلية صاحب المال الخليجي المادية والمبنية على الربح، وليس أي ربح، بل الربح الوفير والوفير جدا، واستنزاف كل ما في جيوب الآخرين من مدخرات.
هذه القنوات الفضائية الشعبية صور مكررة للمطبوعات الشعبية، لكن برداء جديد ووجه فضائي جميل، مع المحافظة على المحتوى الملئ بالفراغ، المشبع بروح المجاملة ورائحة المحسوبية. لذا جاءت هذه القنوات مثل أخواتها من الرضاعة أشبه ما تكون بشعوب الجنس الأصفر الآسيويين المتشابهين إلى درجة التطابق.
أمام هذا المُعطى الذي قدمناه، يتضح لنا أن هذه الساحة الشعبية المليئة بكل هذا الركام من الفوضى غير قادرة على خدمة القنوات خدمة صحيحة، وأن هذه القنوات الفضائية ليس بمقدورها استيعاب نتاج الشعراء المبدعين القلائل، لأن قناة فضائية شعبية واحدة كفيلة بملء الفراغ وقادرة على التماشي مع ما يُطرح من وعي قليل ونادر.
حقيقة لا بد من فرض الوعي بالقوة، وعدم النزول عند كل ما يريده الناس من الشعر والشاعر، قالقوانين البشرية والشرائع الربانية لو تُركت لرأي الناس ورغباتهم لعمّت الفوضى واختلت الموازين، لكن القنوات الفضائية الشعبية ومن قبلها المطبوعات الشعبية تعاملت عكس هذا الرأي، وضد هذا الفهم، أي أنها تعاطت مع الربح وتحقيق المكاسب بحجة تحقيق رغبات الجمهور، فانتقلت بالجمهور من قارئ " مصفّق " إلى جمهور مشاهد " مصوّت ". .. هذا الجمهور الذي لا يقرأ بل يستمع تجاوزته المطبوعات الشعبية من قبل، وهاهي القنوات الفضائية الشعبية تكمل به المسيرة، حيث تتحكم به وقادرة على توجيهه وابتزاز كل ما في جيبه من نقود، فكيف باستطاعة هذه الآلة الاقتصادية السريعة الحركة والشديدة الدوران التفاهم مع الشعر والتعامل مع الشاعر المبدع الحقيقي المؤمن بأفضلية الروح على المادة.
ولكي نلمس الحقيقة عن كثب، أرى أن حب الضوء ليس عارًا أو مذمة، لكن الحديث ينصب حول كيفية الوصول لدائرة الضوء ؟؟. ... نعم لدينا شعراء مبدعون نأوا بأنفسهم عن شعر " الهياط " والصراخ المنبري الحاد، وعملوا ضد سياسة تكريس " القَبْيَلة " المقيتة التي طردناها بوعينا وثقافتنا وتشابك نسيجنا الإجتماعي والوطني والأقليمي، لكن الفضائيات جلبتها وكرّست ثقافة التناحر.
مهما قلنا أو سنقول عن هذا الجانب يبقى في النفس " شيٌ من حتى " كما يقال.... فهذه الأجواء الضبابية تربة خصبة لظهور الشعراء المرتزقة الذين جلبوا للشعر كل ما هو ليس بشعر، من مدح للسلاطين وفخر بالقبيلة، والتغني الأعمى بالذات الزائفة.
ومادام الحديث يدور هذه الأيام عن " شاعر المليون " وما تبع هذا البرنامج من ضجيج إعلامي , منح الشعر الشعبي حضورًا في المجالس العامة والخاصة , ووجه الجمهور من حيث يعلم أو لا يعلم لكل ما يريده منه ذوي المصالح الخاصة القابعين وراء الكواليس , بصرف النظر عن نواياهم التي لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى .
بعيدًا عن الشخصانية والإحساس بالتهميش الذي نلمسه في تعاطي بعض المعنيين بالأدب الشعبي حول مسألة " شاعر المليون " التي شغلت فكر الناس والمتابعين , رغم اختلاف مشاربهم حول هذا الموضوع .
ليكن ما يقال عن هذا البرنامج ذي الطابع المادي الصرف , ليقل عنه الجميع ما يقولون , وبعيدًا عن النظرة التأطيرية لهذه المسابقة , وباعتبار ما يقال عنها صحيحًا أو قريبًا من الصحة , أرى ــ وهذه وجهة نظري ــ أن هذا البرنامج تكريس " للقَبْيَلة " المقيتة , وتأزيم للوضع المتأزم من الأساس , المبني على الإنكفاء الذاتي على النفس , والتقوقع في بوتقة ضيقة من الوعي , تحول بيننا وبين ما يجري حولنا من قضايا كبرى قد تعيد رسم الأحداث من جديد أو " تلخبط " الأوراق المتبعرة أصلا .
لا أحد يختلف معي ــ وهذه نقطة يتفق عليها الجميع ــ أقول : لا أحد يختلف معي في احترام الشخوص الموجودة في منصة التحكيم , ونقدر جهودهم المبذولة في ما يقومون به , فهم يقدمون أفضل ما لديهم .
إن حالة الترهل المادي وكثرة الأموال الخليجية ولّدت لدينا مثل هذه البرامج الاستهلاكية , والمدمرة للذوق والوعي . وبصرف النظر عن نوايا القائمين على هذا المشروع الضخم , وعن احترامنا لهم ولِما يقومون به من جهد , أرى أن الشاعر الحقيقي والمبدع الحقيقي لم يحمل شهادة اعتراف أكاديمية تجيز له الإبداع , فما بالكم بمسابقة طابعها العام الشهرة وهدفها المعلن الحصول على المليون , كيف ولا وهي المسماه بــ " شاعر المليون "فحرص القائمين على المشروع على المشاركات التقليدية العمودية لتحقيق رغبة الانتشار وتكريس ثقافة الحضور حتى لو على حساب المنتج الشعري ككم لا كنوع , الأمر الذي أقصى شعر التفعيلة عن هذا البرنامج . أقول إن هذا الاقصاء هروب من محاولات الشعراء التجديديين الذين فرضوا أنفسهم على الساحة , ومن أجل ان تحلق اللجنة بمن تشاء ودون أي ضجة و هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى , لأن الشعر العمودي غالبًا ما يكون مكشوفًا في مضمونه وفي محتواه نظرًا لوضوح شكله العام حتى للذين لم يدركوا من الشعر إلا الوزن والقافية ــ كسمع لا كدراية ــ وهذه الطرق من السهل تجاوزها دون أي مشقة .
ما أثار غضبي أو حفيظتي ــ لا أدري أيّهما أولى بهذه التسمية هنا ــ هو استبعاد نص الشاعر محمد الوبير , وهنا لم أقل استبعاد الشاعر محمد الوبير , لأنني معنيٌّ بالنص دون الناص , مع العلم أن المسابقة تدور حول الناص " شاعر المليون " , وهذا مما يجعلنا نثير عدة أسئلة حول هذه التسمية , وهي الاهتمام بوسامة الشاعر وإلقائه للقصيدة , ومدى قدرته على " استدرار " عطف الجمهور , وكسب أكفهم للتصفيق والتصويت له .
نعم .. احترمت اللجنة ككل , عندما استبعدوا قصيدة مدح لبض الحكام لأنهم في مسرح لا في بلاط سلطاني , لكن من حقي كمتابع تسجيل هذه الملاحظة عليهم , وتمريرهم لقصيدة الشاعر الإماراتي الهاملي الذي أصر بالتعريف بنفسه بــ " الأعزب " التي لا تحمل من مقومات النص التقليدي إلا الوزن والقافية مع التحفظ على المعنى , وكأن الأمر دُبّر في ليل , لكنهم انقلبوا عليه في الجولة الثانية , وانتقدوا نصه الشعري أيما انتقاد , والسؤال الذي لا بد من طرحه , شاعر بهذا المستوى الهابط فنيًّا , كيف تجاوز المرحلة الأولى ؟؟ وهل قًُدّم لتشجيعه في المرحلة الأولى ؟؟ أو أن المراد إخراج شاعر بعينه ؟؟
أرى من الأخطاء لتي وقعت بها اللجنة , سؤال الشاعر هذا السؤال التقليدي " ماذا تقصد بالشُّرف والشُّرفات ؟؟ " على سبيل المثال ثم هذا السؤال الغريب " ما معنى كلمة ( كذا ) " , وكان عليهم سؤاله : لِمَ استخدمت هذه الكلمة ( الفلانية ) هنا ؟؟ , وهل هذا التوظيف يخدم النص الذي أنت في صدد طرحه على مسامع القراء ؟؟
وهناك ملاحة أخرى و وهي إسقاط الأمور الخارجة عن النص على النص كــ " غسل الجنابة " أو " السيدة مريم العذراء ـــ عليها السلام " , علمًا بأن لفظ الجلالة " الله " ــ سبحانه وتعالى ــ تم توظيفه في الشعر و ولم يكن حائلا بينه وبين الإبداع .
هناك نقطة لا بد من الإشارة إليها أيضًا , وهي عدم حضور الشاعر حمد السعيد إحدى حلقات البرنامج بحجة القنص والتولع بالصيد , ومهما سيقال عن هذه النقطة من مبررات , فإنها ستلقي بظلال من التساؤلات حول هذه المسابقة , إما عدم اقتناع هذا الرجل وهو الشاعر حمد السعيد والذي لا أكنّ له إلا كل احترام وتقدير , أقول : إما عدم اقتناع هذا الرجل بهذه المسابقة ؟؟ أو وجود خلافات بين أعضاء لجنة التحكيم لم تطق الصمود خلف الكواليس مدة أطول مما مكثت ؟؟ أو أمورأخرى يعرفها بعض المقربين من أعضاء اللجنة قد تكشفها الأيام القادمة ؟؟ .
وعي المقيمي , وأخلاقيات السكيبي ومثالياته, وإبداع عبد الله عبيان اليامي , وروح ابن ساقان الإنسانية الشفافة وشاعرية الوبير العذبة , لا مكان لها في هذا المضمار المادي الصرف الذي أحيا ثارات البسوس , وأيقظ داحس والغبراء من رقادهما العميق , ولو استمر هذا البرنامج في هذا النسق " البسوسي " فقد يتجاوز مرحلة القبائل إلى ما وراء القبائل , وهو شطر المجتمع الخليجي إلى جذعين أساسيين ( قحطاني وعداني ) . وهنا لا بد من الهمس بأذن كل حكومة على حدة , إذا اشرأبت الطائفية غاب الوطن .
غير أن الأمل يحدو الجميع أن يتجاوز هذا البرنامج الذي يعتبر رائدًا مهما قيل وسيقال فيه , أقول , الأمل يحدو الجميع أن يتجاوز هذا البرنامج في قابل أيامه كل العثرات او الهنات التي وقع , وأوقع المشاهدين بها و وأن يكون سوقًا عكاضيًّا بثوب جديد وحلة جديدة ومكان جديد على الجهة الأخرى من جزيرة العرب .