[center]
كان يدفعني أمامه دفعا وبلغة مصمم عازم كان يقول:
-أقسمت عليك أن تؤنسني وتجالسني
وقاومت ذراعيه الواهنتين وألتفت إليه قائلا:
-عزيز أنت تحرجني للغاية، كان الاتفاق بيننا أن نتوجه للمقهى وليس لحانة الشمس
وناظرا إلى الأرض موقنا بنتيجة تصميمه ردد:
-هي في النهاية كلها مقاه، والليلة لابد ان تكون جليسي
توقفت وقد غلبني تصميمه وعزمه ،وبدا أني لن أستطيع إقناعه بتعديل فكرته,كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلا، وعزيز من أقرب الأصدقاء إلي وتجمعني به صداقة تتجاوز السنتين, وتعرفنا على بعضنا بالصدفة في المقهى، ثم طالت الصدفة لصداقة قوية عاينت فيها دوما حبه وإخلاصه، ومع مشاكله المتواصلة مع زوجته، وكثرة الخصامات والدعاوي القضائية بينهما كان يجد في الملاذ لإفراغ ما يضيق به صدره.
-عزيز أنت تحرجني للغاية, لم ألج يوما حانة في حياتي وأماكن مثل هاته لا تساير مبادئي
تذمر من قولي وأستجمع قليلا من أنفاسه وعاد لدفعي أمامه قائلا:
-نعم هذا كلام رددناه كثيرا قبلك، والأن هو لا يساوي شيئا أمام رغبة جارفة
-هل تريدني أن أصبح مهووسا بالحانات مثلك أم ماذا؟
-أريدك أن تؤنسني فقط ولا تقرب شيئا لا تريده فالحانة تبيع أيضا العصير والشاي
و صمتت حتى وجدت نفسي في النهاية أمام باب الحانة، فحيا عزيز الحارس السمين بتحية تعارف جلية وتبادلا بسمة صافية ،ودفعني من جديد أمامه ،ومستسلما لصداقته وقراره كنت أمشي أمامه والجا عالما لا فكرة لي أبدا عن داخله من خارجه غير ما كنت أراه في الأفلام, ثم صعدنا للطابق العلوي حيت أنزوينا في ركن مواجه للنافذة ، ولم يكن بالطابق غيرنا وزبون أخر في الركن ، وفي لحظة من لحظات تفحصي للمكان دنت من الطاولة فتاة قد تكون في عقدها الثالث ووضعت قارورة أمام عزيز في حركة دونما سؤال منها ، ثم توجهت لي بسؤال خافت:
-هل أعد لك عصير برتقال
وسبقني خوفي وأنا أتأمل عينيها الواسعتين الجميلتين وشعرها المنسدل على جانبي وجهها وتمتمت:
-أنا لا أشرب البتة
وضحكت ضحكة خفيفة فبانت منها أسنان ناصعة جميلة كحبات اللؤلؤ وأشرق وجهها ببسمتها ، وأهتز فؤادي بشدة فقالت:
-البرتقال لا تشربه
وبارتباك كبير أجبت
-عفوا لم أقصد ذلك كنت أقصد........
وأنفجر عزيز ضاحكا فيما قاطعتني بصوت ناعم ورقة تذيب الحديد قائلة:
-ألم أسألك هل تشرب البرتقال
ومركزة عينها الواسعتين في عيني أضافت:
-أعرف زبائني جيدا هنا وأنت زبون جديد
-لسن زبونا البتة هذا صديقي وهذه طريقي في أثره
أطلقت ضحكة جميلة ورددت بأنوثة بالغة وهي تصوب دوما عينيها إلى عيني حتى ألتهب جسدي وقارب الذوبان:
-البداية دوما هكذا ......إذن ستشرب عصير برتقال
وبشفتين دائبتين وقلب مفجوع رددت:
-هو ذاك مع سكر كثير.......أكثر ما استطعت
وبحركة خفيفة وأنا أشير لقارورة عزيز وقد أحتسى منها كأسا كبيرا قلت:
-كيف عرفت أني لا أشرب مثل هذا
-هذا سر من أسرار مهنتي
-هذه أول مرة ألج مكانا مماثلا ولا أعرف البتة ما أقول
-لا عليك ...كن بخاطر طيب وهانئ..... المكان مكانك
وغادرت في حركة خفيفة وبجسد يتلوى أمامي كالنسيم ، فتأملت قوامها الجميل واستغربت تواجدها في مكان مماثل مع جمالها الأخاذ، ثم نطق عزيز وهو يصب الكأس في جوفه دفعة واحدة :
-ملعونة نساء العالم أجمع ،وملعون من يفكر في الزواج
-اخفض صوتك عزيز
-كان قرارا غبيا يوم تخليت عن عزوبتي وحريتي
-الزواج سنة من سنن الكون عزيز .....لم تفعل شيئا مخالفا
-تسرعت أكثر مما تصورت
-هو أمر قد يتعرض له أي شخص
-تزوجت أفعى مجلجلة
وصب كأسا أخرى في جوفه وقال:
-لا أصدق أن مطبخ منزلي أصبح مليئا بالطناجر من كل الأحجام والأواني
وضحكت من قوله وقلت:
-أليست أمورا تتواجد في كل المنازل
-تخليت عن عزوبتي مقابل مطبخ عامر بالطناجر
واستسلمت لنوبة ضحك خففت عني ارتباكي مع النادلة وقلت:
-ما قصتك مع الطناجر الليلة؟
-رميتها كلها من النافذة ، أبقيت برادا وأناءا صغيرا فقط
-أنت مجنون
-أنا أسترد حريتي وعزوبيتي
-مهما كان فهي زوجتك
-فلتذهب إلى مزبلة التاريخ هي وطناجرها اللعينة
وصب كأسا أخرى وقال بصوت عالي :
-ملعونة نساء العالم أجمع يا صديقي وأنعم بما استطعت من حريتك
-اخفض صوتك يا أحمق ....هذا ما كنت أخشاه ..أن يكون علي حراسة شخص مجنون
- أنا أحرس نفسي دوما حسن وليس في الطابق غيرنا فلا تخشى شيئا
-وذاك السيد في الركن ألم تره ........أنت تزعجه بقولك
وأنفجر ضاحكا وهو يشير إليه بيده وقال :
هل تقصد القاسم الجالس هناك ..... ليس إلا ضحية من ضحايا حواء مثلي هو يعيش وحيدا، وقد غادرت زوجته والأولاد المنزل للخارج ولا عزاء له غير المكان هنا وقوارير النسيان ، ثم وهو يلوح بيده إليه ويرفع صوته مناديا
- القاسم ..القاسم هل تلتحق بنا هنا ؟
ورفع الرجل عينين محمرتين بجفون مثقلة من أثر الشرب ، ونظر جهتنا فبدت منه صفحة وجه لامعة بخدود قانية و حواجب كثة تعلوهما صلعة ممدودة ،وأبتسم إلينا بسمة صافية جعلتني أدرك أنه على معرفة سابقة بصديقي ،وقال عزيز :
-القاسم حبيبي تعالى لأعرفك بصديقي حسن
ونهض الرجل من زاويته وقد بدا في عقده الخامس ، وقصدنا بمشية بطيئة وجلس إلينا مطمئنا باسما كأننا نشترك المكان معا عن ملكية مسبقة ،ثم حضرت النادلة تتلوى في قوامها الآسر وابتسمت في وجه القاسم أولا قائلة:
- هل ستجالس عزيز وصديقة الليلة
- سبق وفعلت يا حلوة المكان
وعانقته بكلتا يديها عناقا خفيفا وطبعت قبلة عابرة على صلعته وقالت
-إذن سأحضر مشروبك من هناك
-أحضري واحدة جديدة سعاد وأجلبي لأصدقائي ما أرادو على حسابي
وهتف عزيز
بل كل شيء على حسابي أنا من دعوتك
وأنطلق بينهما حلف ويمين على من يدفع الحساب ، والتزمت بينهما الصمت المطبق لا أعرف ما علي فعله ورغبة كبيرة تحدوني لأنهي خصامهما وأدفع حسابهما ،حتى استقرت الأمور على القاسم ليدفع ونظرت إلي النادلة باسمة وقالت،
يا لا كرم المسطولين
ثم غادرت أشيعها بنظراتي المفتونة وأمسحها مسحا من أسفل قدمها إلى أخر شعرة في رأسها
ونظر إلي عزيز وقد فضحتني عيناي فسألته قبل أن يلعب المشروب في رأسه أكثر
-هل تعرفها
- سعاد
-كم هو جميل اسمها
-لن تكون إلا متل غيرها من النساء يلبسن ثياب الرقة والبلاهة إلى أن يجمعن كل الخيوط ، ثم في لحظة خاطفة يسحبن البساط من أسفلك ويغادرن
وقال القاسم
-إلى الخارج مع الأولاد دون عودة
وقلت مخففا الجو مخاطبا عزيز:
-لا أعتقد أنها كذلك تبدو طيبة
-هكذا كنت أرى نعيمة قبل زواجنا
وقال القاسم:
لا يعرف المظاهر الخداعة إلا من وقع في خداعها ..طب خاطرا سيد حسن
-لابد أن في الأمر خلل ما سيد القاسم..والأمور تسوى دوما بالتفاهم
وأفلتت منه ضحكة ساخرة وقال:
- التفاهم ....طوبى للفهيمين ....الأمور لا تسوى إلا بهذا الدواء سيد حسن
وخلته سيخرج علبة دواء من جيبه قبل أن أتبين أنه يشير للقارورة ،فضحك عزيز من قوله ضحكة مريرة وقال:
- ياحسن قلت لك انعم بما ملكت من حريتك وراحة بال....ملعونة طناجر الكون ونساؤه
ثم صب كأسا أخرى دفعة أخرى في جوفه ،وسمر عينيه كأنه يتلمس طريق سلوكها بجوفه ونادى بأعلى صوته:
سعاد...سعاد تعالي هنا
وحضرت سعاد بحركة أنثوية جميلة تلوح بالصينية فارغة وهي تردد:
صبرا ..علي بالكاد عصرت البرتقال
فقال عزيز:
-صديقي يحبك
وانفجرت سعاد ضاحكة حتى دمعت عيناها، وكادت الصينية تسقط من يدها فيما أحمرت عيناي وأحتبس فيهما شقاء رحلة غريبة ،وتمنيت أن تنشق الأرض لأقفز داخلها ،وصعدت سخونة لاهبة من قدمي إلى صفحة وجهي ،وزادت ضحكاتها وهي تشاهد تورم وجهي واحمراره ، وضل القاسم غارقا في أعماق صمته ،ولم يبدو عليه أنه سمع ما قيل ، فأضاف عزيز وقد أختلط لديه الأبيض بالأسود
-الخمر لا يشربها والنادلة يعشقها ويحدثني عن التفاهم
وأطلق القاسم ضحكة عالية ترقرقت لها عيناه بشدة وومضتا ببسمة صافية ونظر جهة عزيز قائلا:
أنت مصدر الحكمة دوما عزيز..لا تصمت إلا لتقتنص جملة فارقة
وأضاف:
سعاد مصدر الجمال فهل تلتمس العذر لصديقك
وأشفقت على نفسي وقد أصبحت محط سخرية المساطيل ولمزهم، ولم أجد شيئا أقوله ، ولم أعرف ما علي فعله فلدت بصمت الضالين
ووضع القاسم كأسه على الطاولة وأضاف:
هي رقيقة وجميلة للغاية وعابرة كالدنيا التي نعيشها
وقال عزيز
-متى تزوجت غابت الرقة وعوضتها الطناجر بمختلف الأحجام ...هذه للطير الواحد وهذه للأربعة طيور.. علي اللعنة وعلى أيامي
وضحك القاسم لقول عزيز ثم قال بحزن غير مخفي أبدا :
-أسف جدا ...أسف أكثر من أي وقت لأني أسأت الاختيار وتركت فاطمة زميلتي في الدراسة وتزوجت مسحوق الشر تلك
وقال عزيز:
كلنا أسأنا الاختيار... لا يهمك شيء حبيبي ، من غادرك فهو لا يستحق تواجدك إلى جانبه
وتنهد بنفس حارق قائلا:
-ملعونة اختيارات المرء في هذه الدنيا
وقال عزيز وهو يضع يده على كتف القاسم
ما أعجب ما قالت السيدة
وعايزنا نرجع زي زمان ........ قل للزمان إرجع يا زمان
وسمعت قوله وأنا أراقب قوام سعاد وهي تغاد وأتفحصه فرددت شفتاي:
إلى شفتو قبل ما تشوفك عيني عمر ضايع يحسبوه الزاي علي
وقال القاسم وعيناه تتلألآن بوميض من عالم أخر:
-لا شيء يعود....صديقاي .... فات أوان كل شيء
وتجرع كأسا من قارورته وردد:
- قل للزمان إرجع يا زمان
وقال عزيز مناديا سعاد وقد أدركت أنه يريد تغيير موضوع الحديث رأفة بالقاسم
-سعاد هل تقبلين إلينا ..أين عصير صديقي حسن
ثم وهو يراقبها قادمة إلينا ويمسح قوامها اللاهب بعينيه المحمرتين
-الدنيا قادمة إليك بعصير البرتقال .. أحسن مسكتك للكأس وأشرب هنيا وإلا ستغرق معنا في بحر الضلالة
وأنفجر القاسم من جديد ضاحكا من قوله
وقلت وأنا أراقب رد فعل القاسم الغارق في ضحكه
-أصمت يا مجنون أنت تفضحني ودع عنك حديث الدنيا والضلالة فليس المكان مكان ذلك
-ألسنا من الضالين
ووضعت يدي على فمه لأسكته فيما القاسم يقاوم نوبة ضحك مستبدة ،ووضعت سعاد العصير ببسمة تعذب القلوب الغارقة في الوحدة وقالت:
-ما أجمل كلامكم يا مساطيل
وبدعوة من القاسم الذي بدا قريبا للغاية من سعاد سحبت كرسيا وجلست إلينا وليس في الطابق العلوي من مساطيل غيرنا ، وشدني منها عطر جميل نفاذ، وراقبت عن قرب عينيها الواسعتين ورددت مع نفسي:
لن يطول الأمر لأجدني متيما بروح تسكن هذا الجسد، وأنشغل القاسم وعزيز بإفراغ ما في القارورة في جوفهما كأنهما يفرغان حيرتهما في أكواب الشراب ،وقلت باسما وقد تخليت عن جزء من وجلي الأول:
-ألا تشربين شيئا..سيكون على حسابي
-سبق ودعاني القاسم للجلوس ، وهي دعوة للشرب على حسابه لكني لا أجد رغبة البثة في شرب أي شيء
وبحركة طفولية أشرت للقارورة قائلا:
هل تشربين مثل هذا الأمر
-أقلعت عن ذلك
-أمر جميل للغاية..ولا يليق بفاتنة متلك
-منذ هاذا الزوال فقط
-لكل طريق طويلة نقطة بداية
-ربما أعود له... غذا
-هو أمر ليس لك أبدا أبدا
-أفنيت عمرا في الشرب حتى تلاشت أسناني كاملة
-هي أجمل أسنان رأيتها في حياتي
-ليست أسناني...هي أسنان طبية مثبثة
وأدركت أني أحاور إمرأة محنكة للغاية لا تخيفها صراحتها فقلت:
-عيناك جميلتان للغاية
-أشكرك
-لا أجاملك أبدا
-ليس هذا مكانا للمجاملة
-ومكان ماذا هو إذن
-مكان المساطيل
-لا أصدق أبد أن فتاة بجمالك ورقتك تشتغل في حانة
-لا أحد يختار مصيره
-وتلف دوما بين المساطيل وتسمح لهم بمعانقتها
-أنا من أعانقهم لأني أحبهم
-أليسوا سكارى
-ما أحب طريق السكارى إلى قلبي
-هو طريق فاسد
-هم علية الناس وأشرفهم ولا أجد منهم البثة إلا كل الكرم والحب
-أشياء كثيرة تعتمل في نفسي مند رأيتك هنا
-أنت إنسان طيب
-جمالك أحرق جوانحي هنا
-أشكرك للغاية
وقلت وأنا أركز نظري في عينيها بحرقة
-لا أحتاج شكرك أبدا
-أقلعت عن طرقات المارة مند مدة
-ربما نلتقي في مكان خارج الحانة
-لا مكان لي غير هذا المكان
وأفلتت زفرة لاهبة من أعماقي وقلت
-لا أعرف البثة ما علي قوله ...لكن .......................... قلبي ينزف هنا
-أنت إنسان طيب
-ألا تجدين قولا غير هذا
-أشياء كثيرة لا نختارها في حياتنا
-أتوسل إليك فقط كلميني
وأبتسمت في وجهي إبتسامة حانية أشرق بها وجهها الجميل وقالت:
-لا أملك قلبا أبدا ... تخليت عنه من زمان بعيد.
ثم غادرت ترسم بجسدها الناعم لوحة مفعمة بمتعة ممنوعة ،وقصدت زبونا جديدا وقد أرتكن ركنا من أركان الطابق
ولعنت في خاطري طريق السكارى ولعنت قراري بدخول الحانة وقد كنت أخشى التعلق بالخمر ، فإذا بي أصبح مسخرة مسطولين أرهقهما الزمن وغابت عنهما الحلول، ورددت مع نفسي ما أشد ما يعانيه المرء خارج حدود الصبر والطاقة، وغريب هو أمر هذه النفس البشرية في فهمها للأمور، ورفعت بصري لسعاد فوجدتها منشغلة بمحادثة زبونها غير مبالية بالثيار خلفها ، ولا بما أعتمل في صدري، فأترعت منها عيناي بشدة لاهبة .
وبقرار حاسم حملتني قدماي بخفة خارج الحانة هاربا من مصير مجهول، ومن رجاء عزيز وهو يطلب مني الانتظار وقد قاربت الساعة الواحدة صباحا,وقفزت أخر درجة من السلم وصوته يتناهى إلى مسامعي مرددا:
-ملعونة طناجر الكون أجمع
وإنه لأمر عظيم أن تكتشف في لحظة مارقة جانبا من جوانب الحياة المخفية خلف الطاولات وأعظم منه أن أن تسري الفاتنة بين المساطيل موزعة عناقات الدفئ والحنان المفقود، وأن تجيبك في لحظة هاربة بجواب حاسم قائلة:
-لا أملك قلبا أبدا ... تخليت عنه من زمان بعيد.
[/center]