نَخبُ العودة ..
.
.
.
قتلني كُل شيء .. صمتُ الحيـاة .. صوت الطبيعة .. صخب المارة بين الزقاق.. دُخان السجائر .. كُل شيء .. اسمها، صوتها، رائحة العطر المُفضل لديها .. قتلتني هُروبها دون توديع ، قتلتني تلك الجُدران العتيقة التي تُحيطُ بالمدينة .. جُدران ٌ تُخفي خلفها أنينا ً لا يُسمع .. جُدران ٌ جيرية ٌ صلبة تذكُرني جيدا ً كما أذكرها .. تحمل بين حجارتها رسالة ً حزينة .. أذكُر جيدا ً رسالتها لي قالت دون أن تكترث لما تقول قالتها بعفويتها وخبثها أيضا ً ، بحنكتها وسذاجتها معا ً " كُل شيء نُحبه يوما ً سننساه " وأظنُكِ اليوم نسيتني للأبد .. رميتني في خزائن الحياة وأغلقت الأبواب خلفك ولم تُغلق الأبواب فحسب بل أغلقتني للأبد .. آلمتني للأبد .. مزقتني .. نثرتني .. ثم لملمتني حولتني للعبة ٍ لا أكثر .. أذكر ُ أيضاً بعضا ً من حُروفك التي نقشتُها في زوايا ذاكرتي قبل جدران ِ المنزل وزواياه، قُلتِ حينها " أن الألم يُحي فينا الرغبة في كُل شي" وأظن أنني اليوم أتجرع ُ ألما ً أحياني .. آلمني ثم أعطاني جُرعة ً أخرى للبقاء .. دواء ً لأستجمِعُ ما تبقى مني ، وأقف على ساقي، و أمسكُبالقلم َ مرة ً أخرى لكي أكتب..
أكتبتكِ أنتي لا غير .. وحدك ِ أنتِ من جعلتني لا أستسيغُ علقما ً سوى علقَمَكِ ..
وسما ً سوى سُمَكِ .. لأجعله يدخُل في أحشاني دون رفضٍ مني أو حتى صُراخ، جعلته يتسلل ُ في دمي بسكينة ٍ وهدوء ٍ مني ..
ثم عُدتِ بعد أن رأيتني بخير لتزيدِ عليّ الجراح َ جراحا ً، وتطعنيني بخنجرِكِ وأنا أبتسم ُ لك كالمجنون فلم أعُد أتألم ُ كالسابق ..
عُدتِ لِتُهديني زجاجة َ حبر ِ وريشة ورزمة َ أوراق ِ لأكتب وتجبريني حينها أن أكتب ، ولكن أخبريني عن ماذا أكتب ؟ أخبريني هل أصرُخُ على تلك الأوراق البريئة من دناسة الكُتاب الذين يلهثون وراء الشُهرة؟
أجيبي علي عن ماذا أكتب؟
ولكنك غادرتِ كما أتيتِ أول مرة بوجهك الجميل وثيابكِ البسيطة وهمساتكِ الهادئة ولمستكِ الحانية .. ثم غبت ِ ولم أركِ بعدها أبداً ...
لم أرك ِ إلا بعد عشرين عاما ً، تغيرت ملامحي ، بدوت ِ أكبر سنا ً ، تغيرت الزوايا ، الأروقة ، وحتى ذلك الرصيف لم يَعُد كما كان ..
عِشرون عاما ً كفيلة ٌ بأن أنسى طعناتك لي، وأن أعودَ محملاً بقليل ِ من التفاؤل ِ وكثيرِ من الجراح ِ والأسى ، إلا أن كلِماتكِ جاءت مرة ً أخرى لتطرق مسامعي " عودَتُنا لا يعني بأن الجميع َ فرحٌ بها ، رُبما يتظاهرون ذلك ليجمعون الهدايا منا وينصرفون بعدها "..
كلماتُكِ كانت تخيفني .. شعرتُ بها .. ارتعبتُ وخِفتُ أكثر .. وتخيلت ُ نفسي وحيدا ً على رقعةِ الشطرنج ولكنني تشجعت ُواستجمعتُ قِواي وأقنعت نفسي بأنها كلِماتٌ انهزامية ُ لا أكثر .. لملمتُ أمتعتي وبينها وضعت ُ ذاكرتي ..
وصلتُ أخيرا..
أرضُ المطار الحزين افتقدني .. عِشرون عاما ً وهو ينتظرَني في رأسِ كُلِ سنة ٍ هجرية وميلادية ولكن دون جدوى ..
أرض ُ المطار .. كئيب ٌ وخالي تماما ً إلا من مُسافرين أمثالي يحملون أمتعتاً تُشبِه ُ أمتعتي ، ولكنني أملِكُ ذاكرة ً أخرى تختلِف ُ عن تلك التي يمتلِكونها ..
شوارِعُها .. رمالُها .. جُدران بيوتها أو " شينكو" كما نقولها بلغتنا .. كُلُ شيء كان كما تركته في أول لقاء لنا في صفحات كتاب ِ قرأته لأحدهم الذي تطوع فجأة ً أن يُسَطِرَ صفحات وطنٍ مزقه ُ أهله قبل أن يُمزقه الزمان .. وطن ٌ أحمِلُ اسمه .. أحمل ُ وثيقة ً تُخبِرُ الجميع بانتماء له ..
وطن ٌ غِبتُ عنه وغاب عني .. تُهت ُ فيه قبل أن يتوه هو بداخِلي ..
هناك بعيداً عن المطار قريبا ً من منزل ٍ يُقال ٌ أنه لي بخار ٌ لـ أحد ِ أبناء عائلتنا ..
وهناك سيارة ٌ مُحملة ٌ بطعام لمن لا يمتلِك ُ الطعام وأظن بأن أغلبهم لا يملكون ..
عُدت يا وطن ولكن بأي حال ٍ عُدت لألقاك ..
بأي ّ حال ٍ تركتني و بأي حال ٍ تركتُك .. وأنا لم أرك إلا في أحلام ٍ كأحلامي العقيمة ..
ودعتك يا من قتلتِني .. وحان اليوم بأن أسدد خنجري وأقتُلَكِ للأبد .. كُنت ضعيفاً بالسابق والآن أستمِدُ قوتي من وطني ولن أرحمك ِ ..
سألغيك من الوجود ، سأركُلُكِ لن أشفِق َ عليك اليوم ..
ألست ِ من كُنتِ ترددين " عندما تأتي الفرصة لجماعة واحدة ٌ منهم سيستغلها ليقتُل الآخرين" و أظنني اليوم سأقتلُك ِ ومن بعدِكِ سأشربُ نخبا ً ..
نخب الوطن ..
نخبُكِ أيتها الغربة .....!
بـ قلمي
قلب المحبة
أفراح