لم أعد أستغرب وجود العيادات النفسية والمصحات العقلية بكثرة هذه الايام ... لأسباب عديدة ووجيهه منها كثرة الضغوط الاجتماعية والعملية على الانسان العربي والوتيرة المتسارعة لهذا العصر .. الي درجة عدم القدرة على استيعاب ما يحدث .. أضف الي ذلك النكسات المتوالية سياسياً وثقافياً واجتماعياً ورياضياً ......
نكسة ثقافية أدبية شعبية جديدة تضاف الي النكسات المتوالية التي مُنيت بها الساحة الثقافية الشعبية مؤخراً .
قنوات شعر فاضحة وماجنة وساقطة !!!
وقودها .. التلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم وحبهم لهذا الموروث .
وأدواتها ... الإبهار المتعمد بشتى الطرق والوسائل .. حتى الممنوعة والمحرمة دولياً .
ونتائجها ... أجيال مائعة زائغة لا يعرفون من الرجولة إلا اسمها ولا من الأنوثة الا شكلها .
من هنا تبدأ الحكاية ... كنت في ذات يوم عند أحد الاصدقاء في جو مفعم بالسرور والود ... وإذا بصديقي العزيز وبأريحيته المعهودة يتناول ( الريموت ) السحري ليتنقل بين قنوات التلفزة العربية والعالمية لعله يجد قناة مفيدة ننهل منها ما تيسر لنا من فائدة . ما هي الا لحظات حتى توقف صديقي العزيز عند تلك القناة المظلمة والتفت الي وقال هذه قناه شعرية . فقلت له دعنا نرى ما تخبىء لنا هذه القناة من بديع الاشعار والفنون والمواضيع .. كان ذلك كله قبل أن تتلون تلك الشاشة باللون الأحمر الصارخ الذي لم يخفف من حدته الإ مرور تلك الفتاة المائسة بكل رقة وأناقة حتى اعتلت المنصة التي تحفها الورود الزاكية من كل جانب .. صفق الجمهور بحرارة لم أعهدها من قبل .. ثم أخذت الميكرفون بيدها اليمنى واعتدلت بجلستها .. ليعود الجمهور ويصفق بحرارة . تنحنحت أختنا في الله وابتسمت ابتسامة خجولة .. ليعود الجمهور الي التصفيق . بعد ذلك أخذت تلقي تلك التمتمات البائسة والكلمات النائمة والانفعالات الباردة التي لا تؤدي الا الي الاختناق المزمن أو الاحتباس الحراري , ومع ذلك فالجمهور المسكين يصفق بحرارة .
بعدها جاء دور الشاعر الفحل وأيّ فحل !! ذلك الشاعر المتمكن من كل أدوات الزينة وكل ادوات البريق وكل ادوات الجمال . ولم ينقصه إلا أدوات الشِعر !!. جاء ليقول البيت الاول ثم تناول قليلاً من الماء ويقول البيت الثاني ثم تناول قليلاً من الماء والثالث والرابع والخامس والسادس وبعد كل بيت شربة ماء . وعند الانتهاء رفع رأسه كالفارس المنتصر أو القائد الفاتح .. بعد ان أكمل جميع كأسات الماء التي على المنصة . كل ذلك بوجود ما يسمونه عريف الأمسية الذي لم يفلح إلا بتوزيع النظرات العميقة للحاضراتِ والحاضرات !!
لاحظ صديقي عدم ارتياحي , فعاد الي ريموته السحرية ليعاود التنقل بين ذلك الكم الكبير من القنوات وماهي الا لحظات حتى حط الرحال في ضيافة قناة شعرية أخرى كنت أدهى وأمر من أختها ... كانت قناه شعرية مزركشة بجميع الألوان والأشكال مزودة بخطوط ( الشات ) العريضة أسفل الشاشة وبأرقام التلفونات والفاكسات والإيميلات والأسماء المستعارة وكل ما لذ وطاب وعاب .. وكان فيها برنامج يناقش بعض قضايا الشعر الشعبي وكان الضيوف هداهم الله أشبه ما يكونون في معركه فهذا يلقي بالتهم على هذا وهذا يلوم هذا وكأن ما يتباحثون فيه أو ما يناقشونه سيُفضي الي إرساء دعائم السلام العالمي !!.
تغيرت معالم وجهي وواصل صديقي التنقل بين القنوات حتى ساقتنا رياح الصُدَف الي قناة شعرية ثالثة . هذه القناة مختلفة عن غيرها من القنوات فهذه القناة مخصصة لإحياء النعرات والفتن القبلية بأساليب متطورة ومتقدمة ورسائل لاتليق للمشاهدين وتلفيق بعض الكلام الساقط والجارح والخالي من الصدق والموثوقيه... مع وجود عرض لحفلات البدع والرد التي هي في الأصل ( بدَع ) مردود عليها!! .
حاول صديقي العزيز أن يثبت لي أن الدنيا ما زالت بخير وأن القنوات الشعرية رافد مهم من روافد التطور الشعري فانتقل للقناة الشعرية الرابعة وليت صديقي العزيز لم يفعل ... ففي هذه القناة وجدت أن الفنانين شعراء والفنانات شاعرات واللاعبين ورجال السياسة والرياضيين والعامة والخاصة وكل من وطأت قدماه هذا الخليج ...
طلبت من صديقي غير العزيز أن يطفئ التلفاز ...
وهنا تنتهي الحكاية . ولكن الذي لا ينتهي ... بعض التساؤلات الملحة حيث لا يمكن أن تمارس هذه الكوارث الحية بدون أي ضوابط بحجة الحرية أو الانفتاح .
فهل يحق لأشخاص لا يمتون بأي حال من الاحوال الي الشعر الشعبي والأدب أن يقوموا بتقديم برامج شعرية أقل ما يقال عنها أنها تافهة ؟.
وهل يحق لهولاء الأشخاص أن يصوروا المرأة بأنها الهاجس الشعري الوحيد وأن يحشروها في كل برنامج وكل أمسية وكل منتدى شعري ؟!.
وهل يجوز أن يُمَكن التافهون من الشعراء والمستشعرين من اعتلاء منابر الشعر ليبثوا أفكارهم وقناعاتهم الرخيصة على مسامع الجميع؟!
وأخيراً ...........
هل نستغرب بعد ذلك كثرة العيادات النفسية والمصحات العقلية هذه الايام!
هذا ولكم تحياتي
...................