الأستاذ مشعل الوسامي
لله درك ..مشاركتك الأخيرة والتي بعنوان نقش على حوائط ..الشعراء أغرتني جداً ..فليسمح لي أعضاء منتديات أبعاد بالولوج إلى حرم أبعاد النقد الأدبي من خلال مشاركة تتضمن إقتباساً من مقابلة معي ..نشرت في الصحف السوري وقد اخترت سؤالين ربما لهما علاقة بطريقة أو بأخرى بطرحك أستاذ مشعل ..وألتمس العذر سلفاً من الجميع بسبب حجم مشاركتي الطويلة :
ـ لماذا تظل الدهشة هي الأصل في كل شعر ..؟* ربما يكون لهذه اللفظة " الدهشة " حضوراً لغوياً في أذهاننا يوحي وكأننا أمام مصطلح غرائبي , غنوصي يمتنع عن التفكيك .. وأجد أننا لو اقتربنا منه بشكل تجريدي فلابد أننا سنقترب من حقيقة, لماذا الدهشة هي الأصل في كل شعر..
إن أحد وجوه المعرفة الوصفية بالشعر تصنف الشعر على أنه " فن لغوي يعيد إنتاج الكون .. دون التخلي عن حيثياته .." , هذا البناء والتأثيث الجديد والمختلف للموجودات الكونية الذهنية والمحسوسة وعلاقتها الفاعلة والمنفعلة معنا إنما هي تصدر عن ذاتٍ شاعرة فمن هي الذات الشاعرة ..؟من وجهة نظري الذات الشاعرة المبدعة هي التي " ترى ما لايرى ..وتقول ما لا ينقال " * وعليه فأنا أعتقد أن " الدهشة " هي رد فعل يعتري الشاعر أولاً ومن ثم المتلقي ( القارئ أو المستمع ) .. أما على مستوى الشاعر فهي تحدث نتيجة إحساس وشعور الناص بعظمة فعل الخلق والتخلق الجديد
( الإبداع ) ..مثل أمٍ تتأمل طفلها الذي خرج من رحمها للتو.,, مندهشة بهذا الكائن الذي كبر في أحشائها ثم خرج مكتملا وهو يحمل جزءا منها ومن تكوينها البشري ..
وعلى مستوى المتلقي فهي تحدث نتيجة شعوره بعد التفاعل مع النص ..بأن كل ماحوله مقنّع ..وأن حقيقة الأشياء تقبع وراء أسمائها.. فيمتلك الفرصة ليتعامل مع كل مايحيط به مرة أخرى بطريقة جديدة وفهم جديد .. وهنا تكمن عظمة ألنفري بقوله " وارني عن اسمي وإلا رأيته ولم ترني " وميشيل فوكوالقائل " عالم الأشياء يخلقه عالم الكلمات "
ولعل مدرسة كونسطانس التي أسست لنظرية جمالية التلقي النقدية قدمت لنا إنموذجا مهما يبرر جميع مفرزات عملية التلقي بما فيها الدهشة .. عندما قررت بأن عملية التلقي تحدث بين قطبين الأول فني ويمثله الشاعر والثاني جمالي ويمثله المتلقي , التفاعل بين القطبين يولد وسط يحتوي مفرزات عملية التلقي من دهشة وتماهي وغياب وحضور ..
وهذا مايسبب لدى الطرفين حالة أطلق عليها السورياليون " الاموصوفية " وهو شعور نتذوقه ولانستطيع أن نصفه تماما وعلى حقيقته ..وعليه تبدو لنا الدهشة فلز كامن يتشارك ( الشاعر والمتلقي ) في استخراجه من مناجم الشعر
فالدهشة هي الأصل في كل شعر ..
ـ تحقيق الدهشة يقوم ويتمظهر بالإنتهاك المستمر للأساليب الشعرية القديمة وعلاقاتها اللغوية والسياقية والصورية ..إلى أي مدى تمارس هذا الإنتهاك في شعرك ..؟* قد نقبل بأن قطف ثمرة الدهشة من حديقة اللغة يعني أننا نمارس الشعر..ولكن أعتقد أننا نعرّض الشعر للخطر عندما يظن أحدنا بأن الإنتهاك المستمر للأساليب الشعرية القديمة وعلاقاتها اللغوية هو مبنى وأساس الشعر المبدَع ,
ولعلي أنظر إلى تعاملي مع آلية الإنتهاك التي ذكرناها من خلال رأي قد يعتبره البعض معياراً نقديا يصعب تبنيه ..
فأنا أرى أن فعل الكتابة والتأليف الشعري بما يتعلق بشكل العرض اللغوي " عمودي /تفعيلة/نثري" يتراوح بين آليتين الأولى آلية التعمّد والثانية آلية الإكراه ,وقد يتم المزج بين هاتين الآليتين في النص الواحد ..
أما في حالة التعمد فمن الواضح أن الشاعر يتعمّد شكل العرض اللغوي للنص متجاهلا طبيعة جوهر وفكرة النص وإرهاصاته.. فيبدو النص وكأنه استعراض لطرق انتهاك أساليب الشعر القديمة وعلاقاتها اللغوية أو التأكيد على تلك الطرق..وهنا يصبح النص عبأ ً على الشعر وهذه الآلية كما أعتقد كانت ولا تزال سببا ً في ظهور مسوخ الشعر المعاصر ..وقد يكون الشاعر ممتلكا لطريقة عرض لغوية وحيدة ويصر عليها وكما أعتقد أن لكل طريقة عرض لغوي طاقة وإمكانيات في القدرة على تقديم الأفكار والإرهاصات ضمن النص الواحد.. وبالتالي فقد تتحجم آفاق مضمون النص وأبعاد الفكرة إذا كانت طاقة العرض اللغوي ضئيلة أمام أبعاد وإرهاصات المراد طرحه شعرياً ..
أما في حالة الإكراه , والتي توصلنا إلى ذروة الإبداع الشعري وهذا كما أعتقد هو هَم كل شاعر في الوصول إلى النص الأقصى , فإن الجوهر والفكرة وماينتاب الشاعر من دهشة وغياب وتماهي في النص جميعها تكره الكاتب على طريقة عرض لغوي تقف فيها لغة الشاعر على الحياد لتبقى لغة المضمون هي المسيطرة وتنجو القصيدة من فخ اللغة يقول يانغ كياي تلميذ الفيلسوف الصيني يونغ " نقول عن عبارة أنها ميتة عندما لايزال في لغتها لغة ..وتكون حية عندما لايبقى في لغتها لغة " , وعلى ماأسلفت فإن النصوص الإبداعية لاتقوم على تعمد إنتهاك الأساليب الشعرية القديمة وعلاقاتها اللغوية بقدر ما يكون هذا الانتهاك عرضاً طارئ ظهر وبدى بسبب طبيعة مضمون النص وهناك مثل توضيحي علىذلك من صميم تاريخ الشعر العربي فكل ماتم تصنيفه في علم العروض وبحور الشعر من الزحاف والإقواء والإكفاء...إلخ جميعها حالات رصدت لدى أوائل الشعراء العرب ومبدعيهم ولم يكن أحد يعتبرها من عيوب الشعر مدة طويلة من الزمن .., أيضاً عندما ظهرت موشحات الشعر الأندلسي حوربت مشرقيا في البداية ومن ثم تم الاعتراف بشرعيتها وكأن الشاعر هنا هو المشرع وليس فقيه العروض , وأذكر قول لابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء بأن النابغة كان يقوي في شعره فعندما بدأ يغنى شعره أحجم عن ذلك .. وعليه فإن اتساع رؤية الشاعر المعاصر وتعدد آفاقها ومتطلباتها تسببت في تطور طرق العرض الشعري حتى وصلنا اليوم إلى نموذج القصيدة النثرية وعلى ذلك فإنني أتعامل مع أسلوب انتهاك القديم وفق ماتفرضه أنساق النص وقد يتدخل السياق العام أحيانا في ذلك فإذا كانت فكرة النص تتطلب القوا عدية القديمة في العرض الشعري فليكن ذلك ولن يخرج النص من دائرة الإبداع .. فأنا أقف بإجلال أمام النص العمودي المعاصر عندما يحدث في داخلي أثراً يتفوق على أي نص نثري آخر مع الاعتراف بندرة هذه النصوص العمودية ولكنها موجودة ..
]