.
.
.
.
.
شمس القصيبي .. أفَلَت في حديقة الغروب ..!
كتبه .. // فيصل الرحيّل - رحمه الله -
حينما يشعر المرء بأن أمواج الحياة العاتية ورياحها الشديدة بدأت تتلاعب بقارب حياته وتتقاذفه يمينا وشمالا , وأن الموت أصبح يتسرب رويدا رويدا في داخله , وهو يصارع جاهدا في إلغاء هذا الشعور بالهرولة نحو قلمه وقصاصات الورق , فتمتزج نشوة الموت مع شهوة الكتابة , وهو يتساءل : هل سيتمكن من إنهاء قصيدته الأخيرة أم أن الشعر سيشهق في حنجرته ويصمت القلم , لقد عاش الدكتور / غازي القصيبي .. رحمه الله , هذه التفاصيل وتذوق ملامحها جيدا , فالساري قد سئم الإرتحال في السبعين من عمره , فسقطت زهرة حياته في حديقة غروبه , ولكن قبيل أن تذبل هذه الحياة نجد « القصيبي » يرتقي بها إلى عنان السماء , متوشحا برداء الفضيلة السامية للإنسان , فجعل نفسه صادقة مع نفسه متغلبا على النفس الإنسانية المتشبثة بالحياة وقد لفت حول رقبتها حبلا من الزيف والخداع , ومن المتعارف عليه أن للعملية الإبداعية الأدبية ثلاثة أبعاد يمر بها الأديب بمراحله العمرية المختلفة , ونلاحظ أن القصيبي قد مر بها في قصيدة واحدة في لحظة واحدة , فنجده بدأ في البُعد الأول وهو «بُعد الأنا» يليه البُعد الثاني «بُعد النحن» حيث تمثل في زوجته وابنته , والُبُعد الثالث «البُعد الإنساني» وجسده في صورة الوطن , كما أضاف أيضا بُعدا رابعا «البعد الإلهي أو الروحاني» مخاطبا به ربه راجيا عفوه ومغفرته وهذا التسلسل الأنيق في استخدام الأبعاد كان له أثر واضح في جمال وروعة النص , ولا أخفيكم سرا أنني مشتاق لهذا الأديب الأنيق , الذي غيب الموت جسده فقط , بينما روحه ما زالت تتجول بيننا , سأسير قليلا في حديقة غروبه لأتنفس عبير حرفه المحيط بالمكان , إليكم نص « حديقة الغروب » للدكتور / غازي القصيبي .. شاركوني هذه النشوة :
خـمسٌ وسـتُونَ.. في أجفان إعصارِ // أمـا سـئمتَ ارتـحالاً أيّها الساري؟
أمـا مـللتَ مـن الأسفارِ.. ما هدأت // إلا وألـقـتك فـي وعـثاءِ أسـفار؟
أمـا تَـعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا // يـحـاورونكَ بـالـكبريتِ والـنارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ // ســوى ثُـمـالةِ أيـامٍ.. وتـذكارِ
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا // قـلبي الـعناءَ!... ولكن تلك أقداري
***
أيـا رفـيقةَ دربـي!.. لو لديّ سوى // عـمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
أحـبـبتني.. وشـبابي فـي فـتوّتهِ // ومـا تـغيّرتِ.. والأوجـاعُ سُمّاري
مـنحتني مـن كـنوز الحُبّ.. أَنفَسها // وكـنتُ لـولا نـداكِ الجائعَ العاري
مـاذا أقـولُ؟ وددتُ الـبحرَ قـافيتي // والـغيم مـحبرتي.. والأفقَ أشعاري
إنْ سـاءلوكِ فـقولي: كـان يعشقني // بـكلِّ مـا فـيهِ من عُنفٍ.. وإصرار
وكـان يـأوي إلـى قـلبي.. ويسكنه // وكـان يـحمل فـي أضـلاعهِ داري
وإنْ مـضيتُ.. فـقولي: لم يكنْ بَطَلاً // لـكـنه لــم يـقبّل جـبهةَ الـعارِ
***
وأنـتِ!.. يـا بـنت فـجرٍ في تنفّسه // مـا فـي الأنوثة.. من سحرٍ وأسرارِ
مـاذا تـريدين مـني ؟! إنَّـني شَبَحٌ // يـهيمُ مـا بـين أغـلالٍ.. وأسـوارِ
هذي حديقة عمري في الغروب.. كما // رأيـتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ
الـطيرُ هَـاجَرَ.. والأغـصانُ شاحبةٌ // والـوردُ أطـرقَ يـبكي عـهد آذارِ
لا تـتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي // فـبـين أوراقِـهـا تـلقاكِ أخـباري
وإنْ مـضيتُ.. فـقولي: لم يكن بطلاً // وكــان يـمزجُ أطـواراً بـأطوارِ
***
ويـا بـلاداً نـذرت العمر.. زَهرتَه // لعزّها!... دُمتِ!... إني حان إبحاري
تـركتُ بـين رمـال الـبيد أغنيتي // وعـند شـاطئكِ المسحورِ.. أسماري
إن سـاءلوكِ فـقولي: لـم أبعْ قلمي // ولـم أدنّـس بـسوق الزيف أفكاري
وإن مـضيتُ.. فـقولي: لم يكن بَطَلاً // وكـان طـفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري
***
يـا عـالم الـغيب ذنبي أنتَ تعرفُه // وأنـت تـعلمُ إعـلاني.. وإسـراري
وأنــتَ أدرى بـإيمانٍ مـننتَ بـه // عـلي.. مـا خـدشته كـل أوزاري
أحـببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي // أيـرتُـجَى الـعفو إلاّ عـند غـفَّارِ؟
« 1 »
يبدأ الشاعر هذا النص على درجة عالية من الشفافية والوضوح مع النفس وقد سيطرت عليه حالة نفسية وانفعالي فرضتها طبيعة السياق الشعري , فالنص الشعري وليد انفعالات ودلالات نفسية عدة تتزاحم في نفس الشاعر مكونة لغة انفعالية هي في الحقيقة لغة شعرية مصبوغة بهذا الجانب الانفعالي , وبما أن النص يندرج تحت عباءة أسلوب الرثاء بشكل عام , ورثاء الذات بشكل خاص , نراه ينعكس على الإسلوب الخطابي في النص فالمخاطب ينصهر في الذات المخاطبة ملتزما بالمنطقة المحايدة المناسبة لمثل هذا الأسلوب من الرثاء , فنجده يبدأ النص بالإفصاح عن عمره « خمس وستون » ليتراءى أمام ناظريه شريط هذا العمر بلمح البصر , لكن ياترى لماذا لم يقل بضع وستون أو وضع مفردة مناسبة بجانب الستين , ما السر من وراء تحديد العمر بهذه الدقة « خمس » ..؟ في الحقيقة هو تعبير عما تفيض به نفس القصيبي , كون حرف الخاء حرف حلقي مصدره داخل البلعوم , يواجه الإنسان صعوبة وقسوة في خروجه أثناء النطق وهي دلالة على الحالة النفسية والانفعالات التي كان يعيش في دوامتها , ونلاحظ كذلك السيل الاستفهامي الجارف في المقطع الأول والذي يدور في بوتقة واحدة حيث قام بتوظيف ثلاثة أفعال ماضية " سئمت , مللت , تعبت " تفيد في بنيتها التأكيد والثبوت , ارتكز فيها القصيبي على التقارب الشديد بينها سواء في المعنى أوالتعبير وذلك لكي تتمكن من استيعاب هذا الكم الهائل من البوح بالهموم والأحزان , إلى جانب كونها تقوم بخلق رتم موسيقي متناسق يؤجج في نفس الشاعر انفعالات أكثر سرعان ما تصل إلى النفوس , ولو تتبعنا الأفعال السابقة جيدا سنجد أنها قد اتبعت ببعض المدود المتتالية مثل :
# « سئمت » أتبعها بـِ « ارتحالا , أيها , الساري »
# « مللت » أتبعها بـِ « الأسفار , وعثاء , أسفار »
# « تعبت » أتبعها بـِ « الأعداء , ما , النار »
حيث من شأن هذه المدود استغراق زمن أطول في النطق والتعبير , وبما أن الزمن المستغرق في التعبير والنطق يصبح أطول بلا شك أن الحزن والألم المصاحب لها سيصبح أطول وأكثر أثرا كذلك فتكون فترة الحزن والأسى طويلة جدا , فالفعل الماضي الأول المتبوع بالمدود يعد دلالة وايحاء على الحالة النفسية , بينما الفعل الماض الثاني المتبوع بمدود مشابهه يعد محاولة لتأكيد هذه الانفعالات والحالة النفسية , أما الفعل الماض الأخير المتبوع بمدود كذلك يعد اثبات قاطع لجميع ما سبق , وبدل من أن يرأب الصدع الذي خلفته الأفعال السابقة , نجده يزيد النار حطبا , بإسلوبين استفهاميين خلف بعضهما البعض زادا من تأجيج النفس وتوترها وتفاقم حزنها المتفاقم أصلا , فتغدو الحالة النفسية التي يعيشها القصيبي في ذروتها موغلة في أعماق الذات , فتأتي المعجزة من أغوار هذه النفس التي ما انفكت حتى كشفت عن بعض اللمحات المتصوفة في داخلها والتي سرعان ما هرولت خلف عباءة التسليم بالقدر , فبالرغم من شكوى القلب للعناء والحزن إلا أن الجانب الروحاني في داخل القصيبي قد رجحت كفته راضيا بما حدث له كونه قدر لا مفر منه .
« 2 »
ومن ثم ينتقل بنا القصيبي في المقطع الثاني وما يليه معتمدا على نداءات مختلفة تحمل أبعادا إنسانية وجمالية فنية رائعة , حيث نجده في بداية المقطع الثاني يقول « أيا رفيقة دربي » حيث يوجه القصيبي هذا النداء إلى زوجته ورفيقة دربه وشريكة حياته وأم أولاده وبناته , فلماذا نجده يستخدم أسلوب نداء للبعيد « أيا » لها , ولم يستخدم معها أسلوب نداء للقريب كونها هي أقرب الناس له ؟ يبدو لنا أن القصيبي قد استخدم المنادى للبعيد على القريب وذلك لما لزوجته من مكانة عالية ومنزلة سامية في نفسه فآثر مخاطبتها بأداة نداء للبعيد تقديرا واحتراما لها , كما نجده أيضا يستخدم أداة تمني " لو " عادةً ما توظف لأمر محبب صعب الوقوع , فأي مكانة كانت تحتل تلك المرأة في قلبه ؟! كما يشهد المقطع الثاني المفارقة بين حقبتين مختلفتين سواء في العمر أو الشكل أو حتى على مستوى الحالة الصحية الخارجية دون أن يتغير شيء في علاقته مع هذه المرأة مما يوحي بأصالة وعراقة العلاقة بينهما , كما نجده يستند إلى العالم الخارجي أو الطبيعة لإيصال صورة أكثر عمقا وفاعلية وقدرة على التعبير « وددتُ البحرَ قافيتي , والغيم محبرتي , والأفقَ أشعاري » نلاحظ من خلالها جنوحه نحو حسن التقسيم والتلاعب الموسيقي وانسجام توالي المقاطع التي تترك أثر جذاب في نفس المتلقي إلى جانب استخدامه لمفردات ذات عطاء وافر لا محدود لا نهاية له , ومن ثم يجسد حالة العشق والحب لهذه المرأة بكل ما فيه من عنف وإصرار وقوة ويضع لنا صورة أخرى تكمن قوتها في كلمة « يأوي » حيث تمثل أسمى لحظات الشعور بالدفء والأمان والحب , ونلاحظ في البيت الأخير من المقطع الثاني أن شعور اقتراب الموت والرحيل ما زال متواجدا في قوله « وإنْ مضيتُ فقولي: لم يكنْ بَطَلاً » فشعور الرحيل والمضي يصول ويجول في رأسه ويطلب منها قول أنه لم يكن بطلا , وهذا دليل واضح على سيطرة هذه اللحظات الصادقة مع نفسه برغم الانجازات القيمة التي حققها والمكانة التي تبوأها في حياته , وما أبعد العار عن هذا القصيبي ..!
« 3 »
يسير القصيبي في المقطع الثالث على نفس النهج فيقول في بدايته « وأنت! » محاولا إثارة الانتباه والتركيز ودعوة القارئ للمشاركة في النص , ليكشفها لنا بإسلوب نداء يخاطب به ابنته , يتضح لنا من خلاله ما يحيط به من هموم ومشاكل كالأسوار بعد أن تقدم به العمر , فهو الآن يعيش حالة من الوحدة التي تعد بوابة العبور نحو الحياة الأخرى , وتتضح لنا الحالة النفسية للقصيبي في هذا المقطع بواسطة عدة رموز من الطبيعة استخدمها لتكون معادلا موضوعيا عن حالته تعكس ما يشعر به , ويعد هذا الزخم من الرموز الطبيعية في هذا المقطع لوحة تشكيلية رائعة حتى ولو كانت بعض الصورة متكررة نوعا ما , إلا أنها تشكل زخما قويا يدوي في عمق النفس , ونلاحظ دعوة القصيبي لإبنته بقراءة كتبه حين قال « لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي // فبين أوراقِها تلقاكِ أخباري » وحينها تذكرت حديث للناقدة والشاعرة / سعدية مفرح . حول رواية شقة الحرية بعنوان « سيرة لم تنل حريتها إلا في رواية » فكثيرا ما كانت كتابات القصيبي قريبة من نفسه تحوم حول عالمه , وما لبث القصيبي طويلا حتى عاود الكره في نهاية المقطع ليؤكد شعور الرحيل بقوله « وإنْ مضيتُ فقولي: لم يكنْ بَطَلاً » تالله أنك بطل ..!
« 4 »
وبعد الحديث مع الذات ومن ثم الزوجة ومن ثم ابنته , نجد القصيبي في المقطع الرابع يوجه النداء إلى الوطن بقوله « ويا بلاداً » وكما هو متعارف عليه أن " الياء " نداء للبعيد , وذلك لعلو مكانة الوطن ومنزلته العالية في نفسه وهو الذي نذر زهرة عمره لرفعة بلده إلى جانب كون صوت هذا النداء يتشكل من جوف الفم ملتصقا بالصدر وأعماق النفس دلالة على مكانة الوطن السامية في داخله وعلاقته النفسية المرتبطة بهذا الوطن , فالوطن يكمن في قعر أعماقه فلقد قدم الكثير لوطنه وتبوأ العديد من المناصب الوزارية ونال العديد من الأوسمة والشهادات , ونلاحظ في البيت الثاني من المقطع الرابع كلمة « رمال البيد » في الصدر و « شاطئكِ المسحور » في العجز حيث شمل هذا البيت حيزا مكانيا وزمانيا كبيرا من خارطة الوطن في ذاكرة القصيبي ارتبطت بمراحل حياته المختلفة وأفكاره ومختلف مناصبه إلى جانب كونها رموز طبيعة خالية من الشوائب والزيف , فهرولته نحو الطبيعة محاولة لكشف هذا النقاء والصفاء في داخله , وكما عودنا في نهاية كل مقطع يقول « وإنْ مضيتُ فقولي: لم يكنْ بَطَلاً // وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري » ولو تعمقنا قليلا نجد أنه يقدم لنا تسلسل زمنيا جميل جدا ومراحل عمرية مرتبة , فالوطن احتضنه طفلا فهو بمثابة الأم له ومن أحب للطفل من أمه , ومن ثم المحبوب والوطن حبيبته ومن أحب إلى نفس الشاب سوى محبوبته , أما بالنسبة للقيثار , فربما هو دلالة على تقدم العمر كونه متواجدا منذ قديم الأزل .
« 5 »
وبعد هذه النداءات المختلفة , يأتي في القسم الأخير النداء الأخير , نداء خص به الله وهو الملجأ والملاذ الأخير للعبد فيقول " يا عالم الغيب ! ذنبي أنت تعرفُه " كذلك يعد نداء للبعيد وذلك للمنزلة العالية والمقام السامي , فلا منزلة ولا قدرا أعلى من منزلة الله وقدره , فنجده يتضرع إلى الله ويناجيه فهو عالم الذنوب والخفايا وهو عالم كل شيء , ومن هنا نكتشف سر هرولة الشاعر نحو الطبيعة فهي ابتداء هذا الكون وعالم من النقاء والبساطة , كما هو حال القصيبي الآن وقد توشح رداء المتصوف العابد , فنجده أحب أن يلقى الله بعد هذا العمر , فالدنيا في السابق كانت أحب إليه , لكن بعد أن أتعبه المسير في هذه الحياة ونال منه التعب , أراد العودة إلى الله ومعه " حسن الظن " وهذا دليل واضح ورائع ونبيل على سلامة قلب هذا الرجل .
نقش ..:
القلب وردة لا يقطفها سوى من يرويها بدمه .
*
نُشِرَ في جريدة ( الصباح ) الكويتية .. ملف مقامات .. أغسطس 2010 م .
http://www.alsabahpress.com/SPress/Archive/15QKZXWVNBKOREWAABJFTGXHLS.pdf