قصتي مع الحمام قصةٌ عُمر , قصةُ طفولة , قصةُ حُزنٍ ترتبطُ بي , تلتفُ حلول رقبتي كـ عقدٍ لؤلؤ يزيدُني بؤساً , لطالما عرفته هذا جالباً للبؤسِ , والتاريخُ شاهد , كيف عاشت أسمهان حياة بؤسٍ وسُكر كيفَ تصدحُ بحُزنها وتطيرنا عالياً في السماء ثم تحتضننا بين أوتارها الصوتية نختبئ ونبكيها وأبكيها وأبكيني ..
بدأ ذاك الحُزنِ حينُ أهديت أولُ هدية حبٍ في حياتي , حمامتي البيضاء , ما زلتُ أذكر كيف كُنتُ أحاول أن أحاكي ما أراهُ في أفلام الأطفال وأَضعها على كتفي دون أن تطير وأتخيل أنني أتحدثُ معها وترد علي , أحكي لها كيف ضربني ابن الجيران وكيف أصبحتُ أخاف الخروج إلى المدرسةِ خوفاً منه ,هي هديةُ ابن خالتي الذي رحل بعيداً , أهداني فاتحة الألم في حياتي ورحل , وضعتها ذات يوم في قفص وذهبت , عُدتُ ورأيتُ أول مشهد حقير دنيء في حياتي ولكني لم أفهمه حينها رأيتها والكثير من النمل يغطي جسدها الغض , لم أصدق ما رأته عيناي بكيت كثيراً كيف تموتُ حمامتي كيف , كيف يقتلها النملُ الصغير جداً وهي الأكبر والأقوى ,
وكأن الأقدار ترسل لي رسالة لم أعيها آنذاك وأتجرعُ مرارتها إلا اليوم ..
لا أعلمُ ما الرابط بين تلك القصة وكيف ذكرتها الآن بالذات أنا نسيتها مُذ حدثت إلى اللحظة , وكأن تشابهاً بيني وبين طفولتي , وكأني أبكي الآن كما بكيتُ طفلة الفرق أني أًصبحتُ امرأة .
أمية الشكاية والبوح !
أشعرُ بوخزاتٍ بوسط عظمات قفصي الصدري كأن هناك من يعبثُ به يحاولُ الخروج بلا فائدة مسجونٌ هو بي , يحاول الصعود إلى حنجرتي يحاول الخروج مع تنهيدتي ويفاجأ بأنني أتنهدُ مكتومة أخافُ أن يسمعني أحد , أمسكُ بعنقي ب كلتا يدي أحاول أن أحضنُ نفسي وأهدئ من لوعتي وروعتي ,أتخيلُ أمي , وأتمنى أن أرتمي بحضنها وأبكي وأبلل ردائها بدموعي آه يا أمي آه أخافك لأني أخشى أنك ستسألينني ما بي..
ما لها أبنتك التي لا تُهزم هزمت الآن..
ماله طائرُ البجع الباشق أصبح حمامة تبكي !
كيف ربيتني على القوة والاستقلالية ومبادئ كُثر , كيف استغنيتُ عنها في لحظة وبقيتُ أدفع الثمن ..
كيفُ فتحتُ النافذة للحظات , بالصدفة المحضة ليس إلا , فتحتها ولفحتني الشمس وأخذتني عاصفةُ هوجاء لم أعد منها حتى الآن ..
هل فقدتُ فقداً يشبهُ فقدي لحمامتي ؟ هل فقدتُ بعد أن خُيّل لي أني سـ أطيرُ مثل حمامتي ؟
هل مُزق جناحي كما مزق النملُ جناح حمامتي ؟ ومن مزقني ؟ من سلبني نفسي وهرب ؟
من قتلني بدمٍ بارد وهرب ؟
من الذي يمضغُ السيجار ويضحك ويتمايلُ على صوتٍ غنائي المبحوح , من؟
أتذكرُ باقات الورد وعقود الياسمين واللآلئ , وصفوف المترّجين , مُستقبلُ باهر يسيل له لعابُ الحاضر والماضي , يدٌ تمتد لي بالسلام والحب وربما سعادةٌ أبدية , وتاجٌ يتوجني أميرة على بساط الريح , لأتجاهل كل هذا وأتفرج عليه وهو يخطو بعيداً عني بكل برود , وكل هذا لا أمنّ به فـ أنا فعلته طواعية مني بدون أوامر , ومن أجل من؟ من أجل من أهداني عقود الألم و معها جرعاتٌ من المورفين , ورماني بثمنٍ بخس وكان بي من الزاهدين !
أيها الغريب , وطنُك أصبح خريطتي..
أيها المشرد كنتُ لك بيتاً ومأوى..
أيها الغادر الهاجر , كنتُ لك الوفاء ..التضحية الساكنة مني إلى قبري!
أيها الجائع كنتُ لك الخبز والماء..
أيها الموجوعُ كُنتُ لك الدواء والشفاء..
الآن أجمع شتاتي المنثور عن كل الشوارع التي زرناها , أجمع كبريائي المجروح , أنزعُ أوتاري ,و أستعد لأكون مغتربة جسد بعد أن حولتني إلى مغتربة روح , أستعد للقاء وجوه جديدة , حياة جديدة وسـ أخبرك حينها إن لم أنسى..
وإن لم تجدني إلى الأبد فـ اعلم , أنني نسيتك !