عايدة القرده
فصل من رواية تحمل نفس الاسم
أتتحسس عظام صدرى الناتئة ؛يداى القصيرتان تختمان المسافة ما بين رأسى الكبير ذى الجبهة البارزة وبين ساقىّ .
لستُ راغبة فى الكلام ، أنظر إلى الأشياء التى تعبرُ عينى مزدوجة ، أرقبها فى صمت أتعثُر فى فوضى السكون ، أعودُ أدراجى ، ُأوصد الباب ، أُمارس طقوسى اليومية لاستحضارك أنت الحاضر الغائب ، أتزين لك ، أرتدى ملابسى الزاهية ، أُصفف شعرى على الطريقة التى ُتحب ، ُأرصعه بالنجوم ألُقى بنفسى تحت قدميك بسخاء ، أنزع عنك قميص التعب ، أشم فيه رائحة عبقك ، أُعلقه على مشجب الفرح ، أُشعل لك شموعاً فقد بلغت اليوم الثلاثين غياباً ، أوقظ كرسيك الذى ينامُ على رخاوة الليل ، سأُجلسك عليه وأنا سأقف وراءك أُغمضُ عينيك ،
أقول لك:
تمنَّ علىَّ .
تُمسك بيدى ُتقبلها .
أنتِ أمنيتى المشتهاة.
ترتعش يدى وهى تُعيد ميلادها فوق أرض تعشقها ، تمتص من شفتيك رحيقها ، وحين أذوب فى لذة اللحظة التى سكرت فيها يداى بخمرة العشق ، تعود وُتمارس معى لعبة الأختباء.
أُصبح خريفية الذاكرة ، يتلاشى وجهك تدريجياً .
لماذا هذا العذاب الأبدى؟
لماذا لا أراك بدون الم الغياب؟
كيف لى أن أتدثر بالحُلم دونما خوف؟
لماذا تركض دائما خارج تجاويف الذاكرة؟
ُخذنى الآن فى نوبة حُلم لا ينتهى ، لم يبق لى سوى بريق صورتك التى تأتينى فى نومى حيث لا سلطان علىّ سوى العشق.
أتخيلنى معك، قامتى بطول قامتك ،أُطاول جميع الأشياء،أُعانقك دونما أضطر إلى أن أشب بقدمى إلى أعلى لأرى عينيك.
أخدش صدرك بحنو .
هل ذقت الألم؟!!
تحتضننى يتلامس جسدانا فى رفق .
أُعاتبك: هذا العناق لا ُيرضينى .
أُريد لجسدك أن يختلط بجسدى، حتى تبقى بداخلى ولا تمارس معى مرة أُخرى لعبة الأختباء.
" عندما تعانق من تحب فهذا جزء من نعيم الجنة"
وأنا أستعجل نعيمى.
أنت معى الآن حيث لا حراس ولا جلاد؛ فقط أنا وأنت ونعيم الجنة.
ُمنذأن اعتدت العتمة وأنا اكره الصباحات التى تحرمنى منك، انتظر الليل الذى ُتدثرنى فيه أنفاسك الممزوجة بالتبغ والنعناع .
لا ادرى لماذا تخيلتك مدخناً نافثاً للعشق؟
ربمالأننى رأيتك خلسة ويداك تُمسكان بأعواد النعناع!!
أنا الآن أبحثُ فى ثنايا جلدك عن عطرك الخصوصى بينما يدك تندس تحت شعرى يهتز جسدى بلا هوادة ، لرائحتك مفعول الخمرة ، رائحتك التى اخترعتها مسام أنفى، لشدة الدهشة ُأستيقظ وعبقك يُضمخ وسادتى ، أحتضنها،أحاول النوم مرة اخرى ، لكنه يهرب كفرس جامح تحت وقع الاصوات الصاعدة إلىّ من النافذة.
كل سنه تكبر فى حُلمى.
حين، بلغت السادسة عشر خططت لك شاربا ولحية خفيفة متناثرة على وجهك
،بشرتك ازدادت سمرةاً .
" فانا أقدس السمرة فى الرجال "
وحين بلغت العشرين كان شاربك قد أزداد كثافة وذقنك استطال فخبأت ملامح وجهك، فى منامات اُخرى قررت ان أهذبها قليلاً، وأتركها كنبت صغير ينمو بلا ترتيب على وجهك .
" أنا لا أُحب الرجل حليق الذقن"
أحببت صورتك على هذا الوضع وحين بلغت الخامسة والعشرين تدللت على وتركت فضائى شاغراً أتمدد فيه وحدى على أسنة مشحوذة، أُفتش عنك، تغيب ليال ثم تأتينى فى حُلم قصير ما أن أفيق منه حتى أعيده على نفسى مرات.... ومرات كى لا تفوتنى تفصيلة منه.
الليل الطويل وغيابك علمانى متعة الأنتظار.
ُأشغل نفسى حتى مجيئك فى ترتيب أشياء كنتُ قد خبأتها لك خلسة فى خزانتى ،عطر الياسمين الذى قد ترسله لى
"فقد كنت تتسلق شجرة الياسمين التى تتوسط فناء المدرسة تُعبئ زهورها فى جيب سترتك ثم تنثرها على شعرى الطويل وتقول لى انت الآن تُشبهين اميرة الثلج"
رسائلك التى ربما ترسلها .
لا تُرهق نفسك فقد كتبتها بدلاً منك.
فأنا أعرف ماذا ستقولُ لى ؟
ستقولُ :
إنني جميلة ،أجمل من كل النساء اللاتى رأيتهنّ أو لم ترهنّ، وأننى الكلامُ الذى يجرح مداد الصمت، إنني الأبيض فى فرحهِ والأسود فى شجنه،السماءُ وضوؤها، الغيمة الخائبة عندما تبوح بسرها للريح.
ستقول: انك تتوق إلى النوم على صدرى، ُأهدهدك ، أغرسُ أصابعي المرتعشة فى شعرك المجعد، أبثُ لشفتيك سرى.
ستقول لى :-
إن العاشقين الذين يحتشدون تحت نافذتى ينتظرون بلا ملل آو كلل كى أُلقى إليهم نظرة عشق، سيمضون محزونين لأننى تركتهم واخترتك أنت.
أنت حبيبى الذى صنعته على عينى وجعلته رفيقا لقلبى .
عروستك التى صنعتها من الطين مازالت معى أُحافظ عليها، أُلبسها كل يوم ثوبا جديدا، أحكي لها عنك، أقول لها إنك لن تتركنى كشبح يقبع تحت النافذة، أبحث عنك فى كل المارين فى الشارع اُفتش عن ملامحك فيهم.
تعــــــــــــال:
فما عدت قادرة على الانتظار،فالصباح الذى يجئ يتخطانى ويذهب إلى غيرى فأُمسى حبيسة مساءات موحشة لست فيها.
ما عادت الستائر المسدلة على النافذة تروق لى إزاحتها ولا الثياب المطوية بعناية والقابعة فى الخزانة انتظارًا للقادم الذى لا يجئ.
أُغمض عينى اللتين احمرتا من قلة النوم ، أُفرغ رأسى من تلك الوجوه التى تسكن معى ولا يُبصروننى،ٌيهيلون التراب على كل ذكرى قد تجمعنى بهم.
ربما قروشك الفضية التى زرعتها تحت شجرة الجميز العتيقة تستطيع أن تصل بى إليهم، يعاملوننى معاملة الند، لا ينظرون إلى قامتى القصيرة يمسحون عن عيونهم الشفقة،
يمصمصون شفاههم قائلين:
" مسكينة تللك القردة الصغيرة، كيف لها أن تحتمل هذا الجسد القمقم الذى تسكنه" تللك النظرة التى تجعلنى أتعامل معهم بشراسة قردة تردهم على أعقابهم خائبين يلوون وجوههم متمتمين بما تضمره قلوبهم
"لم يفعل الله شراً إذ خلقها هكذا، ماذا كانت تفعل لو أنها مثلنا
، الحمد لله الذى دفع بها خارج عالمنا"
نعم أنا القادرة على أن أُحول ألمي عليهم أجعلهم يتألمون كما أتألم.
أكرههم ، وأكره عالمهم،
أتمني أن ينفخ الله فى صورهم فيجعلهم بحجم عقلة أصبع حتى أكون أطول منهم فأعاملهم بفعلهم، أُشفق عليهم كثيراً، أو أسخر منهم فأجمعهم فى علب زجاجية، أتفرج عليهم وهم يصرخون طلباً للخروج من هذا القمقم. قد أبكى عليهم فتهطل دموعى تفرقهم جميعا ًفلا يبقى فى هذا العالم إلا أنا واحمد وجدِّى، ربما اترك أمي ، اعلم أنها ُتحبنى وأنا افعلُ كل ما يُغضبها .
أن تكرهنى وترانى قوية قادرة على استفزازها أحَبُ إلى من أن ترانى عاجزة وضعيفة لا أقوى على فعل شىء.
انا أُبصرُ ألمِك وحزنك علىّ وإن كان ذلك يختبئ وراء قسوتكِ.
أمي أنا لست عاراً تُخبئينه خوفاً من أن يفضحه الناس والجيران.
تركض الذاكرة فأرى ذلك اليوم الذى تزوجت فيه أسماء،
رأيت الدموع فى عينيك وأنت تريننى منزوية فى ركن البيت مختبئة عن عيون المتطفلين من الجيران أرقبُ أسماء وهى تتزين فى ثوب حنائها.
كان فستان عُرسها يفترش سريرى كطيور بيضاء.
أنتهزت فرصة أنشغالكم، اغلقت الباب... جاهدت حتى أرتديه... غصتُ فيه ...تكورت بداخُله... يداى اللتان دب فيهماالعجز تفتشان عن ممر تعبران منه إلى الضوء ... تنفض بكارة الأبيض ويستحيلُ إلى أحمر...
.أغوصُ فيه ترتعب الطيور البيضاء التى تسكنه
...تتكومُ فوقى... تنسحبُ انفاسى تحت ثقلها...تغيمُ الرؤية
... غُلالة رمادية تلفُنى... جروُح قديمة تتفتق فى جسدى
من فرط التعب غفوت بداخله ، ربما كانت إغماءة لا أعرفُ زمنها افقت على أمي وهى ترفع عنى ثقل الفستان الذى ابتلعنى بداخله.
أحتضنتى فبدوت كطفلة صغيرة تنتظر حليب الثدى .
لو أنني ادخل أحشاءها مرة اخرى ، تلدنى من جديد أو انسحق فأختلط بذرات دمها ، اندسُ فى ركن قصى فى رحمها علقة صغيرة، او أظلُ هكذا إلى اخر العمر بين ذراعيها تلك اللحظة الحميمة التى جمعتنى بأمى تلاشت وانطفأت، عندما دخلت أسماء فى ثوب حنائها عدتُ مرة اخرى إلى عنادى ، انخلعتُ من صدر أمي.....................
أغلقت الباب وبكيت .
يجرون ورائى يقذفوننى بنوى البلح والأحجار الصغيرة ، هكذا يفعلون دائما عندما يملون اللعب وتجرى وراءهم شمس الظهيرة من مكانِ لأخر، أصيُر أنا لعبتهم تسليتهم المفضلة، يمتطون خيولهم المصنوعة من جريد النخيل، يسيرون فى طابور منتظم مرددين فى صوت واحد ........
"عايدة القرده لابسه البرده وراها تلاته يقولوا ياجده"
يًنغمونها ويعيدونها بتكرار لا يملونه.
للشوارع الخلفية أماكن ودهاليز تصلح للأختباء والأستعداد للمواجهة، فأشجار الكافور العالية مغرية للأختباء والأنقضاض على جيش الأعداء، التفاته خاطفة واستعداد جيد للمواجهة، خاصةً أنه اليوم الوحيد الذى ُيفارقنى فيه احمد، فأواجههم منفردة
السحلفاة البطيئة بذكائها استطاعت أن تسبق جيشاً من الأرانب .
الكائنات التى تمتطى خيولاً من جريد النخيل تمضى فى سيرها واثقة من النصر مُرددين شعارهم الوحيد.
وحدها الشجاعة كافية لاقتلاعهم كنبت فاسد.
أملأ حجرى بالطوب والحصى، أختبئ وراء إحدى شجيرات الكافور العملاقة فلا أكاد أستبين، ما أن أراهم قادمين حتى أبدأ فى قذفهم
تذهلهم المفاجاة ........
يتفرق الصف.... يسقطون على وجوههم... يتكومون فوق بعضهم... أستمر فى قذفهم... يٌحاولون النهوض.... تلتف أرجلهم وأيديهم... أضحك.......
أحتفى بنصرى
ينجح أحدهم فى النهوض يجرى ورائى ...ينشب أظافره فى وجهى ...بينما يستعد الباقون للأنقضاض علىّ ....... أعضه في ذراعه فترتخي قبضة يده المغروسة فى وجهى ... أترك ساحة المعركة بعد أن أتركهم ما بين رأسٍ مشجوج وأقدام ملتوية أمتطى إحدى غنائمى وأقفز كقردة صغيرة فاردة كفى للشمس وللريح......................
يستقبلنى باب البيت المغلق دائما ً، وكأنه ُيذكرنى دائما بقصر قامتى، فمن هم أصغر منى طالت أيديهم اليد النحاسية التى نستخدمها للقرع على الباب.
دائماً ما أجعل أحمد ينحنى فأعتلى ظهره كى أصل إليها ، مع أنه يستطيع الوصول إليها لكنه يرضخ لأمري ، فينحنى ،أعتلى ظهره ، أشعر بالزهو وأنا أستطيل قارعة الباب فأتخيلنى كمثل هؤلاء الذين هم فى سنى
يتململ تحت ثقل جسدى
أنهره
ـ أحمد أكاد أن أقع
يعتذر محاولاً الثبات تحت قدمى المهتزتين
ُأمسك بمطرقه الباب، أخبطها خبطات بطيئة
"أنا لا أستعجل وصول أمى وفتح الباب"
عندما أسمع صوتها أهبط من على ظهره ،يتألم من ثقل جسدى قائلا إنها المرة الأخيرة التى ينحنى فيها .
أركلهُ على مؤخرته..... تُفاجئه الضربة..... يغضب.....يتأبط حذاءه البلاستيكى حالفاً بكتاب الدين ومئذنة المسجد إنه لن يلعب معى مرة أخرى...... ُاحاول أن ُأبقيه معتذرة... فأجذبه من كمُ جلبابه ينفلت منى..... يمضى وهو يتحدثُ بكلمات غير مفهومة..... تأخذنى العزة بالنفس أبصق على الأرض صائحة
"غور عنك ما تلعب"
أتذكرُ أحمد وأنا أحاول طرق الباب بيدى طرقات واهنة بالكاد تصلُ إلى سمعى، أستخدم إحدى غنائمى التى ربحتها فى المعركة، أُحرك بعصا النخيل اليد النحاسية أرفعها إلى أعلى، اترك العصا فتهبط اليد النحاسية إلى أسفل محدثة صوتها القوى.
تفتح أمى الباب، ترانى مهوشة الشعر متسخة الثياب؛ بعض الدماء المتجلطة تملأ وجهى أبصر فى وجهها عقابى المنتظر، أتراجع للخلف محاولة الهرب
تُمسكنى من يدى... تجرنى ... تتشبت قدماى بالأرض...ترفعنى لأعلى...أنفلت منها...أقع على الأرض يرتطم جسدى بعتبة الباب.
الألم يعزفُ فى رأسى موسيقاه النحاسية...أكتم ألمي حابسة دموعى...تغتاظ امى من عنادى...تحمرُ عيناها من الغضب...تسحبنى كجرو صغير... تصرخ فى وجهى أنت سبب بلائى... يكاد شعرى ينخلعُ من بين يديها...تقبض يداي اللتان تطوحهما الريحُ على يد أمي...أغرس أسنانى فى ذراعها ،تنفلت يدها القابضة على شعرى...تركلنى فأندفع إلى جانب الباب...أجرى هاربة...أدور فى الشوارع... شمس الظهيرة تأكل قدمّى الحافيتين يزداد الألمُ فيشمل كل جسدى،أشعر بالجوع فانا لم آكل منذ الصباح.
شمس الظهيرة تتوارى خلف شجيرات الكافور بعد أن انكسرت حدتها وملت المطاردة لا أجد مرفأ لى إلا أحمد، أذهب إليه فى مكانه المعتاد تحت شجرة الجميز
يرانى فيلوى وجهه، أسند رأسى على جذع الشجرة مخبئة وجهى بيدى أنهمر فى البكاء ، يُربت على كتفى
" خلاص ...خلاص ما تبكيش أنا آسف"
" كلماته تشعرنى بالذنب لأننى كُنت أنا البادئة"
أزداد فى البكاء يُحاول خلع يدى عن وجهى، أستجيب له ُيكفكف دموعى ، يمسحها بطرف جلبابه، يملأ كوز ماء يستخدمه لرى قروشه التى زرعها تحت شجرة الجميز كى تكبر وتطرح قروشاً كثيرة ليشترى لى بهم ساقين خشبيتين كساقى لاعب السيرك الذى رآه فى التليفزيون حتى لا يجرى ورائى الاولاد صارخين عايدة ال..........
فإن لم يستط فإنه سيدعو الله أن يبقيه قصيراً لا يكبر أبدًا حتى يستطيع اللعب معى إلى آخر العمر، بعد أن سمع أمه تقول عنى إننى سأظل هكذا كنبت ذابل لا يكبر ولا يشتد عوده .
صب لى الماء...... غسلت وجهى...... بلل كفيه بالماء....... مسح على شعرى .... لملمه فى ذيل حصان...... إعتلى شجرة الجميز....... انتقى لى ثمارها الطازجة يُلقيها ..... أتلقفها فى حجرى، يهبط......... نأكلها سوياً.
نصنع عرائس من الطين، نضعها فى الشمس كى تجف ، نفرش لها بيوتاً من ورق الموز وسعف النخيل، نُلبسها فضلات القماش الذى تُعطيه لنا نعمة النصرانية مقابل توصيل الملابس إلى زبائنها.
فاجأنى بعروسه الطينية الكبيرة التى ألبسها ملابس زاهية أختار من الألوان الأصفر، ذلك اللون الذى ُأحبه كثيراً، صانعا شعرها من بعض خصلات ذيل الحصان ،الذى ركله فى رأسه فشجها، فرحت بهديته،قبلته بين عينيه،فاصطدم فمى بجبهته التى مازالت تؤلمه، إحمر وجهه خجلاً
أنسحبت الشمس مخلفة وراءها الأحمر الشاحب
ركضنا عائدين إلى البيت، خائفين من عفاريت الليل
قبعتُ بجانب الباب حتى أتسلل خلسة وراء أول الداخلين إلى البيت...............