نسر الجليل
كتبت هذه القصيدة قبل سنوات طويلة في ذكرى عملية «قبية» الفدائية وهي العملية التي نفذها الشهيد البطل «خالد أكر» في 25/11/1987 بطائرة شراعية هبط فيها على أحد معسكرات العدو الصهيوني في الجليل الأعلى شمال فلسطين المحتلة وبعدها بأسابيع اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
نسر الجليل
د. طاهر عبد المجيد
ما كنت أعلم أنني بك مغرمُ
حـتى أتيتك مطرقاً أتلعثــمُ
وعرفت أن فمي أقل مساحةً
مما ينوء بــه الفؤادُ ويكتمُ
فتركتُ جرحي عنه ينطقُ بالهوى
شعراً ويعتصرُ الفؤادَ وينظـــــــمُ
أيقظتَ يا نسر الجليل جذورنا
والريحُ من فوق الجذور تحوِّمُ
وسكبتَ في فمها الهوى حتى ارتوت
ونما على الأرض الخراب البُرعـــــمُ
وفتحتَ أعيننا التي ما أغمضت
يوماً فبان لنا البعيدُ المبهــــــمُ
وزرعتَ فينا الكبرياء فأثمرت
وغدا لها في كل يومٍ موسـمُ
إن الطفولـةَ والبطولةَ ها هما
يتفاعلان كما الحجارةُ والدمُ
لله جنــــــــدٌ قائمون بأمــــــرهِ
والعلمُ عنـــد الله أنك منهــــــمُ
أُرْسِلتَ في جنحِ الظلام ولمْ تسلْ
حتى علــــى أيِّ المواقع تهجــمُ
والريح تفتحُ في الظلامِ مسالكاً
أُخرى أمامك والمدى مستسلمُ
القلبُ بوصلةٌ فسرْ من خلفهِ
إنَّ الطريق بنبضه يتحكَّـــــمُ
فاجأتَ هذا الليل قرب فراشه
والصبح نحــو جفونه يتقدَّمُ
حين ارتميتَ من السماءِ معانقاً
أرضَ الجليل بلهفـةٍ لا تُلجَــــمُ
وطبعتَ قُبلتكَ الأخيرة فوقـها
بشفاه جرحك بعدَ ما تعبَ الفمُ
فصحا على وقْعِ الخُطا متوتراً
وجثا أمامكَ كالصغير يُتمتــــمُ
ويقولُ والكلماتُ تسبقُ صوته
دعـنــــــي أغادرْ لا أظنُّك تَندمُ
وادخل إلى وكر اللصوص فإنهم
سَكروا بوهمهمِ القديمِ وأُتخِموا
ولكي تراهم سوف أُبعدُ خطوة
أو خطوتين أُزيحُ ثوبي عنهـمُ
يا نسرنا العربي دعْهُ وشأنــهُ
واستجمعْ الحقدَ الذي لا يَرحمُ
تركَ الثلاثةُ* من رفاقك خلفهم
درساً يُعلِّمهمْ فلـــــــم يَتعلَّمــوا
وبنوا من الأسوار حول قلوبهم
ما يَبعثُ الأمنَ المزيَّفَ فيهـمُ
فأتيتَهم من فوقهم من حيث لم
يتوقعوا فانظر إليهم ها هــــــمُ
يتساقطون على الطريقِ وليس في
أجسادهــم خدشٌ ولا مــا يؤلـــــمُ
ماتوا قبيل الموت وهـــــــو مقدَّرٌ
واستعجلوه بفعل ما هــــــو أعظمُ
وتسلَّقوا حبلَ الحياة ففوجِئــــــوا
بالموت يدعوهم: إليَّ تقدَّمــــــوا
أين المفرُّ وكلُّ بابٍ موصــــــــدٌ
حاقَ العذابُ بهم فمــــن ذا يسلمُ
سدِّد إلى «التُّلْمودِ» بين عيونهم
واضغط بقوة ألفِ طفلٍ يُتِّمـــــوا
وابدأ بمن لبسوا الدروع ولُقِّحوا
بالوهم ضدَّ الموت حتى سُمِّموا
واجمع إليك التائبين لحقنهـــــم
بالرعبِ ممن بَعْدُ لم يَطَّعمــــوا
حَصِّنْ بهم من أن يُصاب بوهمهم
مَنْ خَلفهم فالوهم قد يَستحكـــــمُ
فيمن يُصدِّر بالجريمةِ خوفَــــــهُ
وبوجـــــه كـــلِّ ضحيَّـــــةٍ يَتلثَّمُ
واصبرْ علــــى ألمَِ الجراح فإنهـا
إن شئتَ أن ترقـــــى عليها سُلَّمُ
واضممْ إليك البندقيَّة بُرهـــــــةً
كــــي تستريح لعلَّها تتألَّـــــــمُ
إن البنادقَ فـــــي هواها تكتوي
بالحب كالعشَّاق حيـــن يُتَرجَمُ
أنتَ القصاص لهم فخذْ أعمارهم
وابدأ بقسمتها على من أقسموا
أن يحرسوا النار التي أضرمتها
فـــــي ليلنا هــــذا الذي لا يَسأمُ
وعلى الذين سَعتْ إليك قلوبُهم
كـــي يَرفدوك بهـا إذا نَفَـدَ الدَّمُ
هــذي ولادتكَ الجديدةُ فاحتمـلْ
آلامهــا إن المخـاضَ لمــؤلـــمُ
الحرُّ يُولدُ مرَّتين فإن يمــــتْ
فولادةٌ أُخــــرى وقيدٌ يُهـــزمُ
من لا يرى في معصميه قيودَهُ
حـــــرٌ كأي مُغفَّـــلٍ يَتوهَّـــــمُ
تَبلى الحياةُ كأيِّ ثوبٍ آخــــــرٍ
فاخترْ من الأثوابِ ما هو أنعمُ
واختـرْ لنا حُلَلاً تليقُ بأمسِنا
أو بالذي مــن أمسِنا يُستلهَمُ
واعبر بنا بحرَ الهزيمــة رائداً
فلعلَّ مُشكلة المشاكلِ تُحسمُ
ويعود كلُّ مشرَّدٍ عن ذاتـــه
لدياره حراً يُحبُّ ويَحلـــــــمُ
يا سيِّدَ العشَّاقِ أنتَ دليلُنا
في ليلِ غربتنا وأنتَ المُلهمُ
الليل بين يديك لوحٌ أســـــودٌ
وسَناكَ يَكتبُ ما تَشاءُ ويَرسمُ
كيف استجاب الموت حين اخترته
بالرُّغم منـه ومثلــــــهُ لا يُرغَـــمُ
وجعلتَ منه إلى السماءِ مطيَّـــةً
لتكون نجماً تفتديـــــه الأنجـــمُ
ما سرُّ هذا العشــق إني لا أرى
من أهلــــهِ أحداً يَشيبُ ويَهــرمُ
تعدو بهــــم أشواقُهم حــتى إذا
عزَّ اللقاء على الشهادة أَقسموا
عِشقٌ يحولُ الموت دون وصوله
لبدايـةٍ أُخـــــرى وطفلٍ يُفطَــــمُ
دوَّنتَ في سِفْرِ البطولة صفحةً
وختمتها بعبــارةٍ لا تُفهَــــــمُ
ولسوف يأتي مَنْ يَفكُّ رموزها
يوماً ويبدأ صفحــــةً لا تُختَـمُ
فاقرأ علينا مــــا كتبتَ بنبرةٍ
تُحيي القلـــــوب لعلنا نتعلَّمُ
إقرأ ففي زمن الهزيمة لَمْ يَعُدْ
كالعلمِ يهدي للتي هي أقــــوَمُ
د. طاهر عبد المجيد
* الثلاثة: هم الفدائيون الذين نفذوا عملية «الخالصة» في شمال فلسطين قبل عشر سنوات من عملية «قبية»