*
كنت أحظى بالحياة. حياة كما كل الآخرين يحظون به كما ظننت. غير أني كنت في كثير من الأوقات أشعر بالأسى لأجل والديّ. لأجل الألم الذي أتسبب لهما بسبب مرضي الذي لا يمنحهما لحظة هانئة من الراحة.
كنت في كل مرة أشعر بالألم في صدري أتوجه راكضاً نحو غرفتي لأختبئ. أمد كفي، أسد به فمي كي لا أصدر صوتاً أثناء سعالي الذي يهتز قلب والدي به. كنت كثيراً ما أخشى عليهما مني. كثيراً ما كنت أتألم لأجلهما. كنت كثيراً ما أعاقب نفسي للحرقة التي أتسبب بها لهما. إذ أنهما لا يبديان لي كيف أشعرهما بالألم حين أسعل و يشتد بي المرض. كنت ممتناً لهما لذلك. و كنت أعلم كل الجهد الذي يبذلانه كي لا يشعران بالألم الذي أسببه لهما، أو كهذا كنت أظن.
في ذات مساء، ككل مساء. سعلتُ، سعلتُ بشدة و حرقة، كنت لا أستطيع شيء، لا أقدر أن أنطق بشيء، و لا أجيب حين يسألانني كيف تشعر الآن يا بني؟ كنت أجيب بعيني الداميتان. كنت في ذلك المساء واهناً، لا أقدر على المضي أكثر قدماً. أكل مني المرض كل قواي حتى خرت و لم أقتدر على الرد و الجواب. في ذلك المساء، كنت شبيهاً بحبة فاصوليا، تجرفها الرياح يمنة و يسرة دون أدنى مقاومة منها. كنت قد ذبتُ، و كان المرض قد فتك بي ليلتها لحد ما اقتدرتُ به على شيء.
استيقظتُ، فتحتُ عيناي بعد غياب وعي الذي لا أدرك كم من الوقت قد دام. كنت مستلقياً على فراشٍ أبيض، بملاءة بيضاء، و غطاء أبيض. كنت قد ظننتُ لوهلة أني في كفني أذوب. غير أن صوت رنين ما أحال دون أن أصدق ما كنت فيه.
كيف حالك يا ولدي؟ هكذا جاء صوتُ والدتي من الباب. من باب غرفة الذي كنت فيه بعدما وقتُ بين يديهما مغشياً علي في منزلنا قبل عدة ساعات. كنت أنظر إليها و أنا أستمع إلى الطبيب الذي كانت يتحدث إلى والدي في الممر قريباً من الباب. كنت فيما أسمعه مذهولاً. و صوتُ أمي يتكرر: كيف حالك الآن يا ولدي؟ و هي تمد لي يدها لتمسك بيدي كما كانت تفعل. لكن، ذلك الصوت، صوت الطبيب الذي كان يقول لوالدي إن الأمر ليس بالجديد! إن الأمر قد سبق و حدث لكم كما يتبين لي في سجلكم الطبي. إنكم سبق و أن فقدتم طفلاً بسبب هذا المرض الذي ورثتُه لطفليكما لقرابتكما الدموية، جعلني أسحب يدي مبعداً عن يد والدتي الممتدة نحوي. ما هذا يا ترى؟ وراثة؟ صلة قرابة؟ فقد طفلٍ لمرض وراثي؟
كان الأمر هائلاً، و لم يسعني أن أفهم منه إلا أن كل ما كنت قد شعرتُ به من الأسى تجاههما كان ذنباً حملانه لي دون أن يُعلمان به. يا إلهي. صوت والدتي يتكرر: كيف حالك الآن يا ولدي؟ والدي يقترب يجر معه الطبيب و هو يخبرني كيف سأكون جيداً و صحياً بعد عدة أيام. هيا أيها الطبيب، أخبر ولدنا كيف سكون صيباً جيداً كما الآخرين، كيف سيتمكن من لعب الكرة كأصدقائه و الركض و اللعب معهم دون أن يصيبه مكره.
لكن الطبيب لم يكن ليقول شيئاً. كيف له أن يقول كذباً. و إن كذب، أنا سمعتُ كل ما قاله لوالدي قبل لحظات. أنا سأموت قريباً بسببهما. أنا كنت قد عانيتُ من المرض بسببهما. أنا كنت قد شعرتُ بالأسى لأجلهما و الأذى بسببهما. أنا كنت قد حملتُ ذنباً كبيراً بسببهما. أنا قد منحتُ فرصة حياة سقيمة بسببهما. أنا سأموت بسببهما. كنت حزيناً بسببهما و أنا الذي كنت أظن أنهما حزينان بسببي. كيف أمكن لهما فعل ذلك بي! كيف منحاني فرصة الحياة و هما يدركان جيداً كيف ستكون حياتي بسببهما. ألم يكونا قد فكرا ملياً بي؟ بأخي الذي سبقني في الطريق و مات بسببهما دون أن يخبراني عنه حتى؟ ألم يفكروا إذ هم أنجبوا، كم من الظلم يقترفانه في حقي؟ في حق أخي الميت بسببهما؟ و حق أخي أو أختي التي قد يقترفانه بعدي؟ أأقول لهما شكراً لأنكما منحتماني فرصة الحياة أم تباً لكما لأنكما منحتماني فرصة الموت و أنا حي؟ ألا يحق لي أن لا أكون سقيماً بسببهما؟ ماذا سيجنيان بفعلتهما؟ أكانا يدركان أم تناسيا قرابتهما الدموية؟ كيف سأتصرف تجاههما؟ و عن ماذا سأتصرف، و وفقاً لماذا سأتصرف! و أنا الذي سأموت الآن أو بعد عدة أيام من الآن بسببهما؟
كل ذلك لا يهم، المهم الآن، أني حظيتُ بفرصة لأعلمكم بأني لازلتُ أقول و أنا في قبري تباً لكما لأنكما منحتموني فرصة الموت السريع قبل الحياة. لتبلغوهما بذلك، و لتبلغوا أنفسكم أن لا تفعلوا ذلك بأطفالكم. لا تقترفوا ذنب ولادتهم. امنحوا أطفالكم فرصة الحياة لا فرصة الموت قبل الحياة. إن لأطفالكم عليكم حق قبل ولادتهم حتى. فامنحوهم فرصة الحياة لا الممات يا أصدقاء.