مشاركة شقيق اللغة قايد الحربي الأخيرة دفعتني للإسراع بعرض سؤاليين آخريين
كيف نوفّق بين الأصالة والمعاصرة ؟ أليس الإبداع انتهاك دائم للأصالة .؟
* ربما نوفق بين الأصالة والمعاصرة عندما لاتربطنا بالأصالة علاقة صنميه .. فالأصالة مصطلح يتحول إلى مقصلة لكل فكر إبداعي عندما نتخذه وثناً نخاف لعنته الأبديّة .. وربما إعتقد البعض بأن الأصالة معرضة للاندثار بسبب المد الشعري المعاصر وأنا أظن أن الأصالة متواجدة في النص الإبداعي المعاصر وغيره شئنا أم أبينا ..
فالبعض يناقش الأصالة في النص الشعري من خلال وجوب تواجد بعض المظاهر القياسية القواعدية التي يعتبره
تواجدها شرطا ليكون النص ضمن دائرة الأصالة..وأي غياب لها يقصي النص عن أصالته..وأنا أعتقد أن الأصالة متواجدة في النص الإبداعي المعاصر بطريقة مختلفة ومظهر آخر وهذا التواجد حتمي بمعنى أنه ( واجب الوجود )
ويمثله وجود المفردة اللغوية بـحد ذاتها.. لأنها العنصر الوحيد المتفق عليه بين جميع الأطراف وفق مبدأ علم الألسنة وإذا أخذنا بعين الاعتبار التصنيف الحاصل للمفردة بين أنها ( عربية أو معرّبة ) فنجد أنه يهدف إلى تحصين أصالة المفردة وتحديد انتمائها.. فوضعت المعاجم والقواميس لتشرح لماذا هذه المفردة ( الرسم, العلامة )عبرت عن معنى معين متأصل لدى العرب..وربما نوقشت الحروف نفسها في الكلمة الواحدة فقد وضع الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي فصولا كاملة عن أمّة الحروف وتوابعها من الإشارات في فتوحاته المكية ..
بينما تكون المعاصرة والإبداع والانتهاك في النص على مستوى العلاقات الرابطة بين المفردات اللغوية وهذا أساس مدرسة النقد البنيوي كما هو معروف .. وكأن الأصالة هنا تمثل الشرايين والمعاصرة والحداثة أو سمها ماشئت.. تمثل الدماء التي تجري فيها..., الأصالة هي النجمة الساطعة والمعاصرة هي خيال النجمة في عين الناظر إليها ..إنها نكهة الشعر وليست ذاته .. فهناك فرق بين اللغة بما هي لغة وبين الكلام , اللغة هي تقنية المبدع الخاصة في إدارة عناصر النص وأما الكلام فهو منتج هذه التقنية على مستوى إبداع روابط وعلاقات لغوية جديدة بين الوحدات اللغوية وهنا يتم إنتهاك أصالة تلك الروابط والعلاقات (( أما اصالة المفردة / الكلمة..))فهي حرم لايمس.. فالشاعر حريص على أصالة إنتماء الكلمة لمجتمع ما وإلا لن تكون ذات دلالة مؤثرة في المتلقي والكلمة لفظ إشتق من " الكلم " /الجرح وهذا حق مشروع للمبدع وإلا لماذا قال المعري بيت الشعر المشهور : وإني وإن كنت الأخير زمانه لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل .. إنه كما أعتقد يقصد بأنه سيأتي بعلاقات وروابط لغوية بين المفردات لم يأت بها من قبله , فهل نعتبر المعري ضد الأصالة ...!
ـ هل الغموض من طبيعة التجربة الشعريّة أم أنه من المعطيات الحداثية التي ساهمت في أزمة الشعر ؟
* سأكون هذه المرة حتميّاً في إبداء وجهة نظري وأقول أن الغموض ليس من طبيعة التجربة الشعرية حتما
هو ليس صفة أصلية تفرض نفسها على النص .. الغموض بإعتقادي يمثل تهمة جاهزة توصم بها النصوص من قبل المتلقي الذي لايزال مصّراً على أن الشعر يقال ليفهم وحسب .. وآلية التلقي تتراوح بين آلية الفهم وآلية التأويل ولو ناقشنا بشيء من التكثيف طريقة بناء النصوص الحداثية ـ وأسميها هنا حداثية تجاوزاً لأن هذا المصطلح تم الإساءة في إستخدامه ـ أقول بأن بناء النص الحداثي المعاصر يعتمد حالياً على الإستخدام المركّز لعلم الدلالة وإنزياحاتها
والإعتماد على نقض الثنائيات المنطقية ( هدم الكوجيتو ) بسبب تحرر الفكر المبدع من قيود الثلاثي الأرسطي المنطقي وإلى آخره من أساليب العرض الشعري المعاصر .. وهنا يتم ترجيح آلية التأويل في عملية التلقي وعندما يصرّ المتلقي على آلية الفهم فلابد أنه سيتهم النص بالغموض وقد يصل إلى اتهامه بالهرطقة الفكرية .. ولنكون منصفين وأكثر دقة سأذكر قول " هانس غادامير " صاحب نظرية التأويل الحديثة يقول : " الكلام نصفه للمتكلم .. والنصف الآخر للمنصت إليه " والذي حدث أننا إنقسمنا إلى فئتين الأولى تريد الكلام كله للمتكلم ( تعالي المثقف )
والثانية تريد الكلام كله للمنصت إليه ( المتلقي الجاهز ) وهنا قد يبرز السؤال...: على عاتق من تقع المسؤولية ..؟
أعتقد أنه هناك طرف ثالث يغيب عن العملية وهو النقد .. فالمراقب للحركة النقدية يلاحظ إهمال النقاد لمذهب مهم من مذاهب النقد وهو النقد التوفيقي ونحن نطالب به للحد على الأقل من مغالاة الكتاب وإسرافهم علىأنفسهم في إستخدام وسائل العرض الشعري التي ذكرتها ..وننتهي من العبارة المقيتة التي يكثر ترديدها في هكذا ظروف وهي ( لماذا لاتقول مانفهم ..فيرد الناص : لماذا لاتفهم مايقال ..) عسى أن نتخلص من الذين يحتمون بصفة الغموض ليفرضوا أنفسهم كشعراء ويرفعون لواء الحداثة , وربما سأطرح في هذا المجال رأياً قد يعزي نفسي قبل الأخرين وهو أنه على مر عصور إزدهار الشعر العربي كان في كل عصر الكثير الكثير ممن يقولون الشعر ولكن تميز من بينهم مجموعة من الشعراء وربما كان شخصا واحدا فالفرزدق وجرير امتلكوا زمام الشعر في عصرهم والمتنبي لوحده كان عصرا بحد ذاته وغيرهم من الأفذاذ وكان يرافق هذه الإمتيازات تواجد لعدد قد لايحصى ممن يقولون شعرا ًوكأن الشعر يصطفي أهله وخاصته .. وقد عبر الفرزدق عن إستيائه من هذا الوضع يوماً ما فقال بيت شعر شهير: وخير الشعر أكرمه رجالاً وشرّ الشعر ماقال العبيد , وإن كان الغموض قد زاد من أزمة الشعر فإنه زادها من هذا الباب بشكل مباشر ..