الوحدة قدر إنساني... فالإنسان يبتدئ وحيدا وينتهي وحيدا والفارق أنه عند البداية تستقبله الفرحة والابتسامة وعند النهاية تودعه الدمعة والذكرى .
لكن ثمة فرق في كون الوحدة اختيارا وحرية وفي كونها قدر لا مفر منه وخيار لا مناص عنه ....
فالوحدة عند الاختيار هي واحة خضراء وغناء ومزرعة خصبة للتأمل والتدبر والتفكر والتفكير أما في الضفة الأخرى فهي منفى وظلام ووحشه وحزن .. فالوحدة تكون دائما مؤلمة حينما تكون بمثابة الانقطاع عن الآخر ، فقدان الآخر ، حبيبا كان أم صديقا وليست بمعنى أن ينفرد الإنسان بأفكاره وتأملاته لوحده وبمفرده .
الوحدة .. والتأمل .
ثمة شيئان في الحياة محتاجان للعزلة .. الكتابة والصفاء مع النفس أو التأمل الروحي ، فلا يستطيع الإنسان أن يسمع لضجيج وصخب العالم الخارجي وأن يمارس تأملاته في الحياة في نفس الوقت ولذلك نجد أن أغلب الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام_ إن لم يكن جميعهم _ كانوا رعاة للغنم قبل تلقيهم الرسالة والوحي ودعوة الناس إلى الهداية وتوحيد الله وعبادته وكما هو معلوم فإن مهنته رعي الغنم هي فرصه عظيمة للتأمل والتدبر والتفكير في صنع الخالق وملكوته وعظمته كما أنها تمنح النفس والحس الطيبة والرحمة والوداعة والشفافية . وللكاتب " مصطفى العقاد " جمله بليغة في هذا السياق يقول فيها :" ما من صاحب رسالة إلا وجد نفسه مضطراً أن يحملها ثقيلة على قلبه وعقله ثم أنفرد بها بعيدا يتهيأ لها قبل أن يلقى الناس " . والوحدة فضاء رحب وواسع لفهم الآخرين وقرأت أفكارهم ، ففي العزلة يأتي الآخرون حقا إلينا ونراهم بشكل أفضل ونحبهم بشكل أعمق ونتواصل معهم ومع جراحهم حتى الالتحام .. كما أن الاستغراق في التأمل والتفكير دلاله على أن المرء يحمل أفكار طيبه ، ذلك أن الأشرار والبلهاء هم دائما حاضروا الذهن . والمرء يحتاج في لحظات شفافة إلى التوحد مع ذاته والى سماع صوته الداخلي والى مراجعة مشواره الطويل والانفراد بصوت الجرح الذي يسكن بداخله لعله يجد له مهربا من روتين الحياة ومن مشاغلها التي لا تنتهي أو لعله يسلك طريقا أكثر اتساعا وأعمق بعدا ويخترق آفاقا توصله إلى ما ينسيه هموم يومه وذكريات أمسه .. إذ كم هو جميل أن يكتشف الإنسان نفسه من الداخل وأن يسبر أعماق وجدانه ليتبين الخطوط العريضة لاتجاهاته .. فلا شئ يقدر أن يتحول إلى فراغ طالما حافظت نفوسنا على عمار الحب لها ، إن الفراغ الحقيقي هو أن لا يتبقى لك شئ تفكر فيه ولا يبقى لك من تحبه ويحبك ، لحظتها سيتحول الزمان إلي وقت وتكف الحياة عن الحياة . إن الوحدة والتأمل تمنحنا الفرصة الكافية للالتقاء بحقيقتنا التي ضاعت منا ونعيد لملمة ذواتنا المتمزقة تحت ركام التناقضات وزحام المخيبات . إن للعزلة همسه ولمسه ولغة أثيريه تشعل بالقلب النداء والهتاف لكل وجه قريب من النفس والحس والروح والجروح .
إن الوحدة في لحظه التأمل هي بمثابة توق إلى إقلاع حقيقي ربما يكون هربا أو بداية جديده أو ربما عوده إلى حيث البدايات القديمة .
الوحدة .. والألم .
في ليل الوحدة والوحشة تصير المدن شاسعة وغريبة وموحشة ، وفي لحظات التواصل الإنساني والحنان البشري تكون دافئة ونابضة تحتويك كرحم يكتنز طفلا . إن الإنسان بفطرته اجتماعي يميل إلى التواصل الإنساني والأخذ والعطاء في المودة والمحبة والعطف وليس هناك احب للمرء من أن يجد جليسا يستطيع أن يسكب نفسه في نفسه ويفضي إليه بسريره قلبه لعله يمر بهمساته فوق قارة كآبته وينزع عن روحه كمامة الصمت ليكون وجوده في حياته كالنافذة التي تمنحه الشمس والهواء والقدرة على التنفس . إن الوحدة حينما تكون بمثابة الانقطاع عن الآخر أو فقدانه سواء كان حبيبا أم صديقا أم قريبا .. تكون مؤلمة وقاسيه إذ يحس المرء بحزن غامض يشعر به ولكنه لا يستطيع الإمساك به أو حفظه وهو مع ذلك يلتف حوله ويلازمه ويداعبه ويقهره إلى أن يبلغ مداه الأخير .
إن الوحدة هنا .. تشعر المرء أن كل طرق العمر لديه فارغة مثل أغصان تينه يابسة أشبه ما تكون حياته بمدينة مهجورة مر بها الطاعون وغادرها أهلها إلى الأبد ، في قلبه يتجمع شئ غامض شيئا فشيئا ، لؤلؤة حزن في محارة القلب وعينان عتيقتان حزينتان كشجرة توت ميتة .. كل ما يحتاجه هو إنسان واحد فقط يتسع لجراحه ويمسح دموعه وينتشله من عمق أوجاعه ومن أشواك آلامه وأحزانه وأوجاعه . فتقرأ في رواية " الطاعون " لا لبيركامي " عبارة جاءت على لسان بطلها يقول :" ليس في طاقه المرء أن يظل دائما وحيدا " كما أن " أورست " في الأسطورة اليونانية كان وحيدا عندما قرر قتل أمه " كليتنمسترا " لينال حريته ، أما " هاملت " فكان وحيدا حين أتخذ قراره بالانتقام لموت أبيه ، وهو القرار الذي كان سبب في تدميره وهلاك كل من حوله " وجون كنيدي " كان وحيدا لحظه اتخاذ القرار الشهير المعروف بخليج الخنازير في " كوبا " والذي كان سيقود العالم كله إلى حرب عالميه ، كما أن غالبيه الذين يقدمون على الانتحار لا يتخذون مثل هذه الخطوة الفاصلة والحاسمة إلا في لحظه وحدة مؤلمة وقاسية وكذلك حالات الطلاق .. إن الغالبية منا لا تعرف - عن يقين - ثقل تلك اللحظات الحاسمة في الوحدة ولذلك نجد أيضا أن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم نهى عن سفر الرجل لوحده أو أشار إلى كراهيته وذلك لكون الشيطان يتقوى على المرء حينما يكون لوحده ويزرع بذره الشك والوسواس في ذاته .
إن الوحدة التي يشعر بها المرء لافتقاده لأحبائه وأصدقاءه وأهله إنما هي وحده لا تحتمل يشعر المرء فيها أن الكآبة تغمره كالبحر ويحس أن كل شئ زائف وعبث وأن الفرح لا يدوم وأن كل الطرق تؤدي إلي الحزن ويشعر بأنه جسد بلا روح وشجره بلا ماء وبيت دون سقف " كم هو مخيف ظل العصفور وهو وحده بلا أليف حينما يرحل قبل أن تغيب الشمس أو تجئ الريح " أو كما قال بطل مسرحيه " سؤ التفاهم " ألبير كامي " وهو يبحث عن أمه وأخته اللتين هجرهما في حياته :" لا نستطيع أن نسعد في المنفى أو النسيان ولا نستطيع أن نظل غرباء على الدوام " ومنذ أكثر من أربعه آلاف سنه كتب شاعر فرعوني قديم يشكو فيها من الوحدة والزمن والناس فيقول :
لمن أتحدث اليوم
والأخوان أشرار
والأصدقاء هجر الحب قلوبهم ؟
والإنسان الطيب يتأخر
والإنسان الصفيق يتقدم الصفوف "
إن الوحدة تشعر الإنسان بالعجز والضعف والملل وتسلمه إلى مدينة الاغتراب فيحس انه غريب رغم انه يعيش بين البشر ووحيد رغم كل الأماكن المكتظة بالوجوه فيغترب بمرور الزمن عن ذاته ويصير عاجزا عن ممارسه المحبة أخذا وعطاء .. كما أن بعض البشر كما وصفتهم الكاتبة :" أجاثا كريستي " يزيدون وحدتك عندما يأتون لإنقاصها .... لكن هذا لا يمنع من وجود الرأي الآخر الذي يرى أن هناك أحباب من غمام وأسراب من حمام حينما نتذكرهم في وحدتنا نشعر بابتسامه من عفو الخاطر وفرحه لمرور طيفه العابر ، ونجد أنفسنا نردد مع الشاعر : نزار قباني :
في اللحظات التي أتسكع فيها على طرقات الحزن وحدي
أفكر فيك لبضع ثواني ...
فتغدو حياتي حديقة ورد " .