طيف أديب..
لم أكن أعتقد أن دخولي إلى بهو المقهى سيتسبب في توقف مفاجئ لكل الأشياء... وصمت كل الأصوات...وكأنني أدخل مقهى في مدينة النحاس...كل شيء فيه تجمد بمجرد دخولي...
وحده الزمن لم يفقد الحركة،ظل وهو يدور يراقبني...
ويراقب رفيف أوراق الصنوبر تراقص الرياح القادمة بالأمطار الأولى في موكب الخريف...
سلطان الفصول...
بديع الزمان " المهندماني،"
يدق اجراسا ترن بصوت فضة تقرع الذهب...
والنادل أيضا صمد في وجه الجمود الذي قصفت به المقهى بمجرد دخولي،...
التفت كل الزبناء إلى وقوفي بباب المقهى،
توقف عصار القهوة والكأس في يده...
توقفت رائحة البن عن الأداء...
توقف عباب دخان السجائر في هواء البهو...
أكيد أنني أثرت السؤال عما أتى بي إلى هنا...؟
في عمر الزهور...؟
وقت مجيء الخريف،
بهيئة تلميذ نحيف...
بلا محفظة،
بلا هوادة...
أشد بيدي اليمنى كراسات في ألوان قوس قزح...
أضمها إلى صدري...
كما أضم عمري إلى ذاكرتي...
كما أحاور أسئلتي...
ترى لماذا تفتح المدارس أبوابها في الخريف ولا تؤجل الدخول إلى الربيع...؟
وهل يستطع الفلاح إن يؤجل الحرث إلى الربيع...؟
وهل كان بمقدوري أن أتخلص من صدفة وجودي في مقهى فريد من نوعه...
أحاول أن أتبث أقدامي في زمان ومكان ألقاهما بمحض الحب قبل الصدفة...؟
الحب ايمان والصدفة فلسفة...
فكم مرة مررت من هنا…دون أن أشد انتباهي إلى أن في الزاوية المحادية لنهاية الرصيف يوجد مقهى... وقد ورد يوما ذكره في التاريخ والجغرافيا و في سياق خليط من دروس عن أحداث وقعت رأسا وقضت، ومواقع تبدلت...وأنا لأول مرة...وقد سقطت أنا أيضا رأسا في هذه المدينة و منذ خمسة عشر ربيعا... لم أعثر فيها يوما على هذا المقهى... القابع بزاوية بمدينتي... وأنا كم مرة مررت من هنا ولم أنتبه أن بالمكان مقهى... حتى الكراسي لا تحتل الرصيف العمومي، واجهة المقهى المقنعة باحتلال مكان المارة… فالرصيف هنا يتمتع بكامل الاستقلال ولا عمره عرف ما معنى الاحتلال...وزد على ذلك باب المقهى ليست عليه علامة أشهار اسم المقهى… أو نوع مشروب غازي...أو رائحة عاطلين عن العمل يسترزقون أشعة الشمس بفلسين... فلس يؤدون به ثمن المشروب... وفلس يكترون بها قراءة صحيفة...
لم يخن المكان لأنه مجال آمن وعادي وسلس في تعامل المعمار مع الرصيف ...ولا علامة واحدة تدل أن الباب الذي دخلته باب مقهى...ولكنه في الواقع مقهى وليس كباقي المقاهي الأخرى...
وأنا الذي،ومنذ صغري أتسكع المساءات كلها بأبواب المقاهي، لأتفرج من العتبة على الرسوم المتحركة في التلفزيون وبالأبيض والأسود...وحين كبرت اصطحبت مرارا والدي إلى مقهى بجوار الحي الذي نسكنه... لأمرر معه مقابلة في كرة القدم بعصير البرتقال وعلى حساب والدي... وأحيانا أستفيد بمشروب إضافي على حساب زملاء الوالد...وقتها كان التلفزيون نادرا بالمنازل، وكل من يمتلكه وكأنه يمتلك تحفة سحرية تتحفه بالحكايات وأخبار المساء بالأبيض والأسود… وتقيم آنذاك إشهارا للتلفزة القادمة إلينا واليكم في المستقبل بالألوان... أتذكرون هذا الإشهار وقتها؟...
كل مقاهي المدينة فيها شاشة تلفزيون إلا هذه المقهى التي دخلتها منذ قليل بدون سبق إصرار وبلا ترصد... صوت الراديو يئن ربما في زاوية ما قرب عصارة القهوة، أوربما بالقرب من طاحونة البن... أو ربما يجاور معسكر الفناجين المقلوبة وجناحها إلى السماء...
للطير جناحين يطير بهما…
وللفنجان جناح يرفع منه تماما كالصبر... لا ينم علي جناحه حين يقلب رأسا على عقب ...
والمذياع في كل الأحوال متخف في مكان ما بالمقهى ولكنه يجهر بالحضور... و يستمع لجلوس الزبناء...ورائحة البن والشاي المعطر بأوراق النعناع الأخضر أو الزعتر اليابس في كل مكان…
من حسن حظي أن النادل حفل بي كما يحفل الناس كلهم بالأطفال في مثل عمري وفي موقف مماثل لدخول طفل مثلي إلى المقهى...وقد لمحت الترخيص العمومي معلق في ايطار زجاجي عليه صورة المستفيد من التصريح... بجوار ساعة حائطية تكتب الوقت بثلاث أقلام عوض ثلاث عقارب...ترى من من هؤلاء الزبناء ورواد المقهى يكتب الثواني ومن يخط الدقائق ومن يرسم هم الساعات...والأقلام تكتب... وعقارب الزمن تدور وتدور بدون توقف...والزمن يتوقف أحيانا كالقلب يدق ليحيا ويتوقف وهو يدق ليستريح...وقلم وقت هؤلاء الزبناء يكتب بدون توقف...هل سمعتم بزمن أو مكان بدون أدباء،بلا كتاب،ولا شعراء...حتى عصور الانحطاط جادت بالكتاب والأدباء والشعراء...هؤلاء فضحوا كلية الانحطاط عندما أنشد أحدهم مطلع قصيدة عضت بأنيابها قميص تاريخ الشعر العربي...
السماء سماء والأرض أرض وما بينهما الطير يحلق...
حتى مثل هؤلاء سماهم التاريخ والجغرافيا بشعراء ودون حماقاتهم في ذاكرة النسيان السرمدي، لأن التاريخ يذكر الحمقى أكثر مما يذكر العقلاء… لأن التاريخ يكتبه المجانين في عشق الكذب على التاريخ وبناء عمران فوق عمران... واستبدال المواقع لتقنيع المكان... حتى لا يفلت عهد ولا عصر واحد من هم الكتاب والأدباء والشعراء...
لقد سرحت بي فعلا وقفتي القصيرة ببهو المقهى...سرقت مني كل طفولتي وسعدت باللحظة...ولحظة استفقت على النادل بجانبي وهو يلاطفني برفق وكأنني مرسول اليه من أهل الدار ...وهو يضرب على كتفي
" إيه يا بني هل تبحث عن والدك؟ "
نزل علي النادل بسؤاله بمطرقة أحزان وأسف الدنيا كلها... وقلت لنفسي قبل أن أجيب النادل اللطيف... "آه كم هذا المكان جميل، لو كان أبي كاتبا أو أديبا أو شاعرا لكنت قد ولدت في هذا المقهى... ولربما كان نصيبي من الحياة جرسونا وديعا ... أخدن الزبناء واكتسب فيها أدبا وشعرا... أحسن من نادل في الحياة بالكاد تسترزق منها نصف يومك والنصف الياقي على باب الله ...ولكنت قد ارتحت من جحيم نعيم وجودي بهذا المكان "
اغتنمت أو لربما استرقت ببراءة الأطفال لطف النادل وأجبته بالمباشر...
- " لا يا سيدي " ثم سألته بلمح بالبصر حتى لا تضيع مني صحبته في هذا الوقت الثمين...
- " هل هذه المقهى مقهى يجلس فيها الأدباء والكتاب والشعراء والفلاسفة...؟"
زاد سؤالي من لطف النادل...
ولم أنس نفسي من طرح السؤال عليها أولا... ألا يكون هذا النادل الوسيم اللطيف اللبق هو الآخر أديبا يؤدي نوبته في خدمة الزبناء، رواد المقهى العجيب...لأنه يستحيل أن تأتي بنادل كأيها نادل إلى هذا المكان ليخدمه من غير تخصص في الأدب أو الشعر أو الكتابة والفلسفة وباقي الفنون الجميلة الأخرى...وأداء الخدمة كمان بهذا التخصص أو ذاك طول العمر...
-"نعم يا بني... وهل ضاع منك درسا في الأدب أو الشعر...؟ وجئت تبحث عنه هنا؟ أو ربما أعطاكم الأستاذ فرضا في الفلمن هنا...؟
تفضل يا بني اجلس أولا هنا على هذا الكرسي أنه مكاني...
تفضل اجلس خذ كامل راحتك... هل آتي لك بمشروب ساخن أو بارد؟... اجلس أولا حتى يطمئن الزبناء انك منا ونحن منك...تفضل اجلس فكل الزبناء الآن يسالون من تكون وماذا جاء بك إلى هنا وفي عمر طفولتك؟... ألهذا الحد يمكن ان يستعجل الأطفال الشعر والأدب والكتابة...؟
اطمئن سأتصرف مع أسئلة الزبناء...وسأقول لهم بأنك جئت من كوكب معجم غينس لغرائب وعجائب الدنيا... وأنك دخلت المعجم لوحدك من دفتي المعجم، واكتشفت نفسك بنفسك وكتبت اسمك بالمعجم بنفسك ولم يكتبه لك أحدا ...زبون جديد ربما شاعر ربما كاتب ربما أديب في عمر الأطفال الصغار الكبار الشيوخ ولما لا طفل كل الأجيال ... طفل يدخل مقهاكم... ليحتسي من زوابع فناجيكم دروسا في الثورة والتمرد...
لا تحملوا هم صرف مشروبه فللتو طلبت له مشروبين، مشروب بارد، و مشروب ساخن ومن صنع محلي... " انتهى كلام النادل أتكونوا قد نسيتم...لأنه منذ قليل وهو يتكلم،أنه يؤدي دورا ما على خشبة مسرح منصوبة في مكان ما... ألم أقل لكم أن النادل في هذا المقهى نادل سكر زيادة...
أخذت مكاني على الكرسي كما أمرني...
تخلصت من كراساتي ...وتقمصت شخصية زبون...
وتخيلت نفسي لابسا كسوة إفرنجية...
وحذاء أسودا...
وجوارب في زرقة الليل كما بذلة بحارة جدد في الإبحار...
يلفونها شريطا أبيضا مفتولا جهة اليمين يزينون بها الكتف...
بدون شارات نحاسية...أو فضية أو ذهبية أو جواهر محوهرة مرصعة... كتلك التي كان يزين بها بوكاسا بذلته الغير العسكرية... ومماثلة لتلك التي يزين بها القدافي خيمته ومربط حمارته...
لباس البحارة الجدد خطوط بيضاء وزرقاء... و زورق و مجدافين ومركب صغير ومجدافين اضافيين تحسبا للغرق في أي وقت وأي بحر...
عندما كان بوكاسا يحكم كنت في عمر صبي وقد جمعت وقتها كل صبية الحي بحي هامشي وأضربنا ضد حكم بوكاسا ورددنا شعارات مناهضة... وسجنونا ولم يطلق سراحنا حتى بلغنا أشدنا....ونسينا بالتالي ثورتنا رغم اننا كتبنا عليها أسطورة...
استسلمت للوضع وعن طيب خاطر وبقناعة طفل مبتدأ،يعجل ببدايته وقت الخريف و قبل الوقت...
وقد سقطت قبل ثلاث سنوات في أول قصة حب سقطت بأقل نقطة لم تتجاوز ربع المعدل فكانت نقطتي سالبة للسقوط وإيذانا بانهيار جميع قصص الحب القادمة فيما بعد إلى حياتي...
ترى لو لم أكن طفلا...يدخل المقهى هكذا ببراءة الأطفال هل كان زبناء المقهى سيتوقفون لحظة دخولي ... وهل كان النادل سيحفل بي بمثل هذه الحفاوة في الاستقبال...؟ أم إن زبناء المقهى والخدام فيها يهتمون بالبسيط من الأشياء والمركبة منها واليها والى بعضها...مع الأخذ بعين الاعتبار مركبات نقص... ومركبات زيادة... وأخرى سادة...
ناول النادل الكرسي وجالسني على طاولته كأنني زبون كبير وحقيقي...وأكثر من ذلك كأنه يعرفني وكنت على موعد معه وأنني جئته في وقت الميعاد وبأمر منه وعلى استعجال...ألم أقل لكم قبل قليل انه استقبلني بباب المقهى وكأنني مرسول إليه من أهل الدار؟
" إيه يا بني...لحظة والمشروبين يكونان عندك جاهزين...هلا شرفتنا أولا...وأنت لأول مرة تزورنا ؟ أليس كذلك؟ مرحبا بك... ماذا أتى بك إلى هنا...؟ هل تسأل عن أحد؟ أم جئت فقط لتجالسنا...؟ لحظة وأعود إليك، زبون وصل ومشروبك جاهز ...لحظة... أنا هكذا أجالس الكل وأعمل واقفا أو راجلا ذهابا وإيابا ...أقطع هنا في اليوم عشرات الكلومترات دون أن أبرح من الهنا...هنا رزق يومي هنا أدبي وشعري وكتاباتي... وفلسفة الأخد والعطاء بلا إمضاء و بلا تصديق على الإمضاء وبدون بلاغ ولااشعار بتسلم البلاغ بوصل الاشعار...أرأيت ان الحسابات الخاوية تفسد معادلات الجبر ...تفضل اجلس خذ مكاني انه مكانك ومكانكم ومكاننا كلنا...انه بماثبة السجل الذهبى لهذا المكان يوقع عليه القادم اليه باليدين وبالرجلين وبكل قطعة من لحمه وقطرة من دمه ...
لحظتها أفل النادي ولحظتها عاد وبسرعة...وفي يديه قدح من تراب وفنجان من زجاج...رتب مكانهما بعناية أديب محترف في الكتابة... وقع على الطاولة بمنديل برتقالي وتحسس نزولهما من بين أصابعه بمهارة فائقة وكأنه يقدم المشروبين لنفسه أو لأحد أبنائه المشروبين وليسا من نصيبي ...عاود النادل الجلوس على الكرسي وعينيه على بهو المقهى،دون ان ينسى مخاطبتي بالتفضل لتناول مشروب الشاي البارد في القدح... والحليب الساخن في الفنجان...معتزا بطفله واسمه بارود لأنه يشرب نفس المشروبين كل صباح ويمررهما برغيف مبلل في العسل...معتزا بابنته واسمها آمنة وهي اليوم ستدخل الصف الأول في المدرسة....
حضر عالم النادل إلى عالمه، فنسي كل الأسئلة التي طرحها علي... ولكنه لم ينس كنا اعتقدت ...
-" إيه يا بني...لما كنت في عمرك كنت اثنين، أنا و وردية... والزمن الطويل... ذكرتني يابني ما اسمك؟ دعنا نتعرف إليك...وبالمناسبة أين كل الأسئلة التي طرحتها عليك لأعرفك من تكون... أنت الان عرفتنا من نكون...هل نسيت أسئلتي أم انك وضعتها جانبا حتى تفرغ مشروبيك؟...
تفضل يابني اشرب ...اشرب فأنا لما كنت في عمرك مسكت الكون كله في قبضة واحدة وخيرت العالم كله بين الكون ووردية...فزوجوني وردية وأعطيتهم الكون كله... "وهو يعتز بنصره هذا ذكرني قي هزيمتي في ساحة وغى العشق ومن قبل أن أبلغ عمره بثلاث سنوات... سقطت في الغرام وضربوا رأسي بالكون وضاعت وردية مني...
اشتدت عقدة وجودي في المقهى... واشتدت أيضا عقدة حكايات النادل مع ورديته وكأن العقدتين مسطرتان في جدول أعمال المقهى هذا المساء... ومنذ قليل كنت الزبون ما قبل الأخير،دخل بعدها بلحظة الزبون الأخير وبعدها ما دخل زبون آخر...
جالس هنا... وجليسين هناك ...وواقفين إلى منضدة الشرب قرب عصارة القهوة... والزبناء لا يتعدى عددهم العشرة...وليس هناك ضجيج... بعضهم يتهامسون وآخر كأنه يكتب مسودة في السماء... ومذياع يتكلف بقصاصات الأنباء... على رأس كل ساعة يزد العاصر في صوته عند بداية الأخبار ويعيده إلى درجته بمجرد نهاية الأخبار...
لحظتها انتهت غربتي...أصبحت واحدا من المكان...تعرفت بسرعة على النادل والنادل حكى عني لخدام المقهى وناب عني في الجواب على أسئلة الزبناء التي طرحوها بشأني...وكأنني أظفر ببطاقة العضوية بين الزبناء الأعضاء في هذا المقهى... وصرت أتمتع بحرية التجوال في أركان المكان...ووجدت نفسي أتقرب إلى الإطار الزجاجي للترخيص العمومي أكثر وصورة صاحبه عليه تبدو أكثر فأكثر... انه يشبه النادل...بل انه النادل نفسه صاحب المقهى... في صورة إفرنجية برباطة عنق وكأنه ليس بالنادل الذي جالسني قبل قليل... وكأنه معلمي في مادتي التاريخ والجغرافيا وكأنه من ملاكي كبار مقاهي الأدباء والكتاب والشعراء...وأنا أمارس كامل حريتي بالتنقل داخل المقهى وقد وجدتها واسعة رحبة أكثر مما كنت أصور وبأضعاف أضعاف ما كنت أتصور...إذا بي المح بهوا آخر بالجانب المقابل يستظل دالية عنب...تتوسطه نافورة شغالة يتدفق منها الماء بهدوء وكراسي متفرقة هنا وهناك شبيه بتلك الكراسي التي رسمها كبار الرسامين لكراسي الملوك والعظماء...تصورت المدخل مسلكا إلى دار النادل ما دام هو صاحب المقهى فلما لا؟... لا يكون صاحب هذا البهو المجاني والمرتب بإتقان وجدت نفسي أمام عقدة ثانية وقد تخلصت من عقدة وجودي ببهو المقهى وقعت في عقدة وحدتي أمام بهو أخر تابع لبهو المقهى وليس به زبون واحد جالس...إذن ليس البهو من المقهى؟...هل يكون عالما اخر من المقهى...
والأسئلة تدق رأسي استشعرت يد النادل صاحبي وصاحب المقهى تمسك بكتفي يسألني...
-" إيه يا بني...أين اختفيت؟ تعالى معي... هل أعجبك البهو هنا...انه متحفي،شيدته بنفسي...غرست به دالية عنب وشجيرة برقوق...قضت شجيرة البرقوق وعاشت الدالية...اقتصدت من نفقات المقهى واشتريت بعض الكراسي ومزهريات بلديات وأبرمت اتفاقية مع بستاني يزور الرياض مرة في الأسبوع ليخدم طلبات الزهور والورد في البهو ويرويها ويقلب في حوضها التراب...وحبيبة الكل وردية تتكلف بزينة المكان ورونق المكان وورعة الزمان في المكان...تفضل يا بني ادخل ...خذ راحتك في البهو يبدو أن طلبات الزبناء هذه الليلة رومانسية لن تنتهي...تفضل ادخل ساتي اليك...
لم يكن النادل ،عفوا صاحب المقهى وكل هذا المكان...لم يكن يمزح،
فعلى باب البهو وهو من قصب...
كتب طيف الأدباء والشعراء والكتاب...على لوحة من خشب...
فعلا لم يكن يمزح...
فالباحة رياض للفسحة بكل معاني الكلام عن الفسحة ...
أهل مكة لا يحجون...
ورواد المقهى قليلا ما يأتون إلى هنا لضمان راحة أطياف أخرى تحل بالمكان الباحة الرياض
البهو خال إلا من وجودي...
ومن انتظار التحاق النادل بي ليأخذ بيدي،
وبإعجابي،
ودهشتي.
عندما دخلت هذا الرياض سمعت صوت مجرى نهر أو لربما أنهار بالقرب من المكان...وأكثر من ذلك لمحت طيفا يحل بالمكان ربما هنا بالقرب مني ربما هنالك وانا ابحث عن المكان أتسع الرياض اكثر... امتد من حولي هنا وهناك وعروش دالية العنب ما فتئت تسرح في السماء ...تصنع سقفا للجنان في المكان...وصوت النهر أو الأنهار تزداد...وحضور الطيف يتأكد أكثر...انه هناك لقد رأيته واقفا بجوار مزهرية تنبث الحبق... يرفع رأسه إلى دالية العنب كأنه يتلو إعلانا عموميا... أو بلاغ باخلاء المكان وكأنه غير راض بالبلاغ لأنه لا يهمه...شعره أسود قليل في حجم جمجمته الصغيرة يتهندم بذلة رمادية في لون السماء عندما يقترب وصول الخريف...وأنا أقترب من الطيف والنادل صاحب المقهى يناديني بأن أتوقف... ولما توقفت أشار على بالهدوء وكأنه مايسترو محترف في كتابة الهدوء الى النوتة وإهدائها إلى الحبيبة الغالية وردية...وألح علي يضيف إشارات وغمزات أخرى كلها تفيد الهدوء... وكأن المايسترو خلص من الوتريات والطبليات وراح يراود النحاسيات هدوءا هدوءا وهي ترش المكان بمعزوفة الهدوء المطلق... واقترب يهمس في إذني...
" على مهلك يا بني فضيف الرياض حل الآن هذا المساء قادما من الجدول الأعلى من عيون منابع أم الربيع...تؤثث سريرا ومجرى بين ضفتين حتى تضمن العبور إلى المصب في المحيط
تعالى نجلس هنا نرقبه من بعيد لنلمح طيف من يكون القادم الى باحة المقهى ونحن لم نتبين بعد هل من يقرؤنا سيختار الطيف طيفنا... اليوم اتانا الطيف في طيف أديب...
كل الأطياف هنا... نادوا فقط انتم من شئتم وممن تعرفون وباسمه يأتي اليكم ...
فقط تبينوا...
تبينوا فقط
قط
ط
...
المصطفى الكرمي
25 رمضان 1430
الساعة 19,40 بتوقيت خط مطل رمي الحمام
خط غرينتش سابقا
الخريف التاسع من القرن الواحد والعشرين بعد ست ليال وليلة