كيف ترميني أقداري بسطوة رجل = أدري إني فقدته قبل لا أبدا معاه
فيه هيبة أمير وفيه رقة طفل = يحتضر ألف معنى قبل يوصل مداه
قراءتي هذا المساء لشاعرة طقسها معتدل وجغرافيتها سهول وهضاب وجبال ,سواحلها خصبة ممطرة .
عندما تمسك القلم تمسكه بأصابع الدهشة , تستغيث بالحشمة ,تتأجج بالمشاغبة,لها رغبة في تكسير المرايا لكي تتعدد الوجوه
هي الشفق الوحيد الذي يستطيع خلق القصيدة بلا فناء!
تدعوني أبعاد التركي إلى قراءة مشدودة بالذهول لتمثيل تجربة لا تلتقي بمثيل
فهي في عطائها تشكل حدسا فريدا لمعاني شعرية تتخذ من الشعر مفهوما كليا للعالم
يدعو المتتبع لمسيرتها الشعرية لإكتشاف قارة شعرية أخرى تدعوه إلى إيقاع لا ينتمي إلا لذاته
وهذا يعني أن أبعاد التركي تؤسس تجربه أنثوية فــي ثقافة راهنة من خلال تأكيدها الانتماء إلي موهبة نسائية تمشي بخُطى واثقة لثقافة شعرية
تعمل على تشفيف المسافات لكي يصبح الشعر إيقاعا قريبا يتطلع إلى المستقبل ..
شاعرة تحاول الخروج من غيمة العتمة إلى فضاء مفقود يمتلك درجة عالية من البياض يجعل من اللغة طاقة تلفظه
تجازف في عرض القصيدة وتنتظم في نسق المتغير
فهي ليست حجرا يصعب صقله بالأزميل، لكنها فضاء مؤسس بالمشافهة بدلالة (الألحان، القافية ، المضمون والفكرة ) التي تجعل من نصوصها قوالب شعرية تنحاز إلى ذاكرة تعزف ألحانا يدركها الوقت النافر
إنها تخلق المعنى والأجواء الشاعرية لتعطل الرتابة أولا ,وتتخلص من النمطية ثانيا
هذا هـو المنطق الذي أشاهده بلا مجاملة في نصوص هذه الفتاة التي تقرّب البعيد وتحفظ القريب
لبست ثوب الغرام وقلت له زره = ويمد كفه ولاكن ما نطق فمه
الحُر هو غايةً تسعى له الحُره = والنايفه تعشق النايف وتهتمه
ينبغي علينا أن نعترف بأن نص ( دموع وضياع أمكنة )
لا يحقق المتعة فقط إنما يثير أسئلة كثيرة وهذا التساؤل لا يتحقق إلا بقراءة متأنية
تقول شاعرتنا أبعاد التركي فيه :
ألمـس بصـدري دمـوع وضيـاع وأمكـنـه = طفـل هـارب مـن يديـن تنامـت ألـف ايــد
رحت أطعن فـي ضلوعـه ولا أدري عنـه = واكتشفت اني ذبحته وهو طفلـي الوحيـد
ليـه أقتـل عمـر عايـش بنبـضـي وادفـنـه = كـيــف أبـــدا والـبـدايـه عــمــر جــديــد؟
والربيـع اللـي بصـدري تـعـرى سوسـنـه = والجفاف يعانـق الريـح وأنفـاس الجريـد
ذنب لا شفت أعظمه قلت ما أصعب هينه = داخلـه فـي رحـمـة الـلـي تـرجـاه العبـيـد
يــا كـبـر ذنـبـي ورحـمـة إلـهـي ممـكـنـه = أتعـب الكفـار صـدري أبـي مسـلـم عنـيـد
ماتـزحـه مـــن مـكـانـه رمـــاح مسـنـنـه = لو تسلط سيف عنتـر علـى حبـل الوريـد
تقول في البيت الأول :
ألمـس بصـدري دمـوع وضيـاع وأمكـنـه = طفـل هـارب مـن يديـن تنامـت ألـف ايــد
( الدموع – الضياع – الأمكنة )
كلها أسماء تحتل لدى المرآة الشئ الكثير وهنا أقول إن أبعاد التركي تفوقت على نفسها وكأن هذه اللحظة خارجة عن إرادتها أو كأنها فرضت نفسها عليها... هكذا تتراءى لي تلك الأبعاد من هذا الشطر
إلى ذلك الحد اتسعت مساحة الجرح في الشطر الثاني (الهروب ) والهروب كما هو مطروح هنا ليس كما ألفه عامة الناس
الهروب هنا هو هروب طفل كما طرحته الشاعرة في بداية القصيدة هو انتاج واقع
وابداع حياة
والخروج من حلم مفزع !!
هذا الهروب يقودنا للبيت الأول الذي كتبته ابعاد ويقول :
حلم مقفي بي عن الناس وارخيت رسنه
مانشدتـه ليـه يـطـوي مسـاحـات البعـيـد
لعل ما يستوقفني عند هذا الجزء من القصيدة كثرت التشبيهات الجميلة
(صـمـان المعالـيـق - والفيـاض اللـي روت مـن عيونـي - دمـوع وضيـاع وأمكـنـه - رحت أطعن فـي ضلوعـه - والربيـع اللـي بصـدري تـعـرى سوسـنـه - والجفاف يعانـق الريـح )
هنا تبرز ثقافة وأجواء الشاعرية لدى أبعاد التركي فإختيار التشبيهات هنا ساعدت بكل المقاييس في إدخال القارئ في جو القصيدة والغوص بين أركانها
وعلى الرغم من حالة الإمتاع التى حققتها لنا الشاعرة أبعاد التركي إلا أنني أشعر يقينا ً بأن الشاعرة لديها أكثر من ذلك
فهناك صور عميقه أيضا تملكها الشاعرة وآفاق أكثر رحابة تبدو على طريق القصايد التي تقدمها
لكن لا أستطيع أن أصل إليها وغالبا فإن السبب في ذلك إلى حرص الشاعر على الالتزام بالقافية التي تصنع جرسا ً موسيقيا ً محببا ً لديها غير أنها أحيانا ً تحد من انطلاق رؤيتها التي كان من الممكن أن تتسع أكثر
لذا أهمس في أذن أختي أبعاد بألا تشكل القافية غاية لديه
بل تترك للصورة الشعرية أن تأخذ مدارها كاملا ً
حيث أنها قادرة على أن تكون قصيدته أكثر عمقا ً ودلالة
كما أني لا أنكر على أبعاد قدرتها وتمكنها من جعل قافيتها طائعه ً وسلسة
ولعل قصيدة ( ماكل عذر يساق ) معاني جمالية خارج المعايير المنمطة تقول شاعرتنا :[/align]
والـدفّـه الـلـي تـقـود مـراقــب الـدفّــه = ماسايـرت هقوتـن يـم اشهـب الـلالـي
كلـن يداعـي جموعـه واحـتـزم صـفّـه = واستنفـروا حزبهـم رجلـي وخيّالـي!!
ياحيـف طاحـت كـبـار الـقـوم مختّـفّـه = ولا كل عذرن يساق لبعـض الاقوالـي
دون الحـيـا والعـقـل والـديـن والعـفّـه = المـوت رحمـه وستـر فكـل الاحـوالـي
شمس الحقيقه بصدر طويـق وتشفّـه = وعن مسرجات الوغى تنبيك الاجيالي
امـا بصـدق الحكـي ولا الحكـي ضفّـه = مـاكـل فـزعـة كـريــم تـريّــح الـبـالـي[/poem]
هذا النص يصعب تجاوزه أو تجاهله حيث أنه علامة أساس من علامات التجربة الشعرية الراقية لدى شاعرتنا
يؤهل القارئ بأن يمسك بالخيوط الأولية والأساسية للعمل الذي يراد دراسته
وإذا أردنا برهان ذلك فلنقرأ هذا البيت :
اغسـل يدينـي بـمـاى الطـهـر واسـفّـه = وارقا سنا النجم واعرف وين منزالـي
ومن النماذج السابقة رأينا أن الشاعرة أبعاد التركي تشكل تصورات للقصيدة الأنثوية الحديثة
وإذا كنت في عجالة قد أشرت إلى نماذج ونصوص تجلت فيها القوة والحبك الشعري بآفاقها الدلالية المختلفة
فإني أزعم والأمر كذلك أن روح أبعاد التركي ومعجمها الفني وطبيعتها الآسرية قد شكلت تجربتها لا في المستوى الدلالي الذي ألمحنا إليه ولكن في مستويات الأداء الشعري الأخرى من اللغة إلى الصورة والإيقاع بحيث يمكن أن تجد كل بيت كتبته وتكوينه يخرج لنا لغة شعرية مختلفة وصوره شعرية وتلمحيات انعكاسيه على بنية نصية مختلفة وراقية
وحينما تعاود القراءة في النصوص السابقة لا تجد أن الأجواء الشاعرية واللغة الشعرية مجرد صورة أو باعث دلالي فحسب
ولكنك تجد فعل الحبكة المتفردة في اللغة والصورة وإلإيقاع.
بل تجد عمق المعنى ومعطياته الفنية
الا أني أعيب علي أبعاد التركي عدم خوضها في قضايا أمتها العربية والإسلامية
وكانت معظم قصائدها تتحدث عن وجدانياتها
وأٍستوقفني قصيدة أسمتها أختي أبعاد (ثار وقتيل ) تقول فيها
الشـوف مـن عـبـرة الخـافـق يـلـد ويـفـوح = والدمعـه اللـي بجـفـن اللـيـل ثــار وقتيل
تضمـا سـراب النـهـار ويعتـريـك الـنـزوح = ومزاحـم الوجـد فــي طـيّـات قلـبـك نـزيـل
تروى عبث لحظة الماضى وفكرك شطوح = كم تاه بـك عـن جديـل الغيـم كـف البخيـل
ماجـاد بـه وقـت ضيعـه الزمـان اللـحـوح واطلق خطاويه فـي صـدر السقيـم العليـل
لاصرت ماعاد انـا مخطـى ولانـت بسمـوح = صـافــح وداعـــك ودوّر للـحـنـايـا بــديــل
فقلـوب الاحــرار ماتلـقـى لـلاسـرار بــوح = يفنى بها العمر عن غـدر الزمـان الطويـل
يتـوه عقبـك ســلام الـحـال واحـيـاك روح = مثـلـي يـحـدّه عـلـى دربــك كثـيـر وقـلـيـل
لـك هيبتـن تعتلـي فـي نايـفـات الـصـروح = واسمـك تمـثّـل بــه المـجـد المسـمـا مثـيـل
مرقـابـك النـجـم هـامـة مبعـديـن الـشـبـوح = عليـك اثبـت دروبـي وانتحـى لــك وامـيـل
الله ومرنـي علـى داعيـك اســج الـسـروح = وانكفت بين الرجا والياس صبـرن جميـل
الشمس ماهـي صبـاح لمدميـات الجـروح = ياليـل ماسقـت فـجـرك مــن ثلاثـيـن لـيـل
البـحـر واهــج زراقـــه برتـحـالـك يـلــوح = تضـيـع بــه يـمـة الدنـيـا ودربــك سـبـيـل [/poem]
وهذا البيت بصفة خاصة
لاصرت ماعاد انـا مخطـى ولانـت بسمـوح
_________ صـافــح وداعـــك ودوّر للـحـنـايـا بــديــل
الضمير ( أنا ) و الفعل ( أخطي ) لا يتلأمنا هنا مع جماليات القصيدة
وكان باستطاعة الشاعرة أبعاد أن تتفنن بحرفنة مع هذا البيت بشكل أخر يجعله أكثر عمق وصورة شعرية
من وجهة نظري الشخصية الضمير يجب أن يكون على مستوى الرؤية
وعلى مستوى التصوير.
فالضمائر أحيانا توقع الشاعرة في الخروج عن الهدف المنشود من إنشاء وبناء البيت
ولا أنكر أني وقعت أيضا وقعت في هذا المطب عندما قلت في أحد أبياتي
الله يسامحك (أنا) ماني مسامحتك = يكفي من الهم والاحزان ماجاني
فقمت باعادة ترميم البيت السابق بهذا اللاحق :
الناس قالوا ريناد اليوم ذابحتك = والله أعلم من اللي ذابح الثاني
إلا أن ذلك لا يعني أن أبعاد لا تملك صور رائعه وعميقة
بل على العكس من ذلك تماما فهي لا تزال متربعة على عرش الوصف والخيال الشعري وبناء البيت المميز البعيد عن التكلف و التزلف إلى إرهاصات الواقع الذي يُعجِزُ أي شاعرة غالبا في حل طلاسم المعاناة الشعرية
حيث أن أبعاد التركي وبدون مجاملة تجتر صورها الشعرية من بيادي وقفار جغرافيتها الشعرية ولغتها الكيميائية الخاصة
ريناد