أمهلني قليلا بعد يا قلمي ،،
قليلا ،، وترتاح مني وأرتاح منك ،،
أمهلني ففي الغمام ما تزال بقية من قطرات الماء ،، وفي الروح بقية من المداد ،،
قبل أن تستل الشمس نورها من عيني فتشرق ولا أراها ،، وتغرب ولا تراني ،،
قبل أن يسترد الهواء أنفاسه من صدري ،، فلا يعطيني فيما بعد ولا يأخذ مني ،،
وقبل أن يتجمد السائل الأحمر في عروقي ،، فتتجمد الأنامل التي تقبض عليك وتقودك
دعني أمطر ما تبقى من الغمام تسبيحا وشكرانا للذي وهبني إياك ،، وتكفيرا مني ومنك على كل ما صدر عنا وكان تدنيسا للخيال وللضوء وللذكريات ،،
دعني أريق ما تبقى من المداد في الروح اعتذارا وعرفانا للأرض التي ضيفتنا طوال هذه الأيام فكانت أكرم من سقى وأطعم ،، ولم نكن أعف من أكل وشرب ،،
وكانت أروع من وعظ وأرشد ،، ولم نكن أسرع من اتعظ وارتشد ،،
وكانت أحن من احتضن وربّى ،، ولم نكن خير من احتـُضن وتربى ،،
ما نسيت يا قلمي – وكيف أنسى – ساعة أمسكت بك لأول مرة لأتعلم وإياك تصوير الألف والباء ،، الأنامل التي أمسكت بك يومئذ هي عين الأنامل التي تمسك بك الآن ،، ولكن ،، شتان ما بينهما في ذلك الزمان وفي هذا الزمان ،،
منذ تلك الساعة ونحن نربط الحروف ببعضها لتكون لنا الكلمة ،، ثم نزاوج الكلمات لتكون لنا العبارات ،، ثم نضفـّر من العبارات أوراقا لصفحات أثيرية ،، ونخلق من الصفحات مشاركة لنا ،، ثم نقول " ها هو عمل قد انتهى ،، فلنباشر عملا آخر " ،،
كأنما يمكن أن يكون لأي عمل بداية أو نهاية !! ،،
هكذا وجدنا يا قلمي أن الحروف ب ح ر ،، تأتينا بأكثر من كلمة ،، فهي بحر وهي حرب وهي حبر وهي ربح وهي رحب ،، ولكل من هذه الكلمات مدلوله الخاص الذي لا قبل لنا بتبديله أو تعديله ،، بل علينا أن نتقبله كما هو وارد في المعجم الذي لم يفارقنا ،،
وهكذا بات البحر إماما لنا ،، وبات المدى الذي منه نحشو الذاكرة بالمعاني ،، والأفق الذي فيه تقف أفكارنا ومشاعرنا ،، ومنه تطير أحلامنا ،، وإليه تعود أحزاننا ،،
عرفنا يا قلمي أن الحروف ليست سواسية ،، فمنها الساكن ومنها العاصف ،، ومنها الشمسي ومنها القمري ،، علينا أن ننساب مع رياحها مشردين بين أمواجها ،،
كذلك عرفنا يا قلمي أن الكلمات كالحروف لا تتزاوج كيفما اتفق ،، بل هي تتبع في ذلك قوانين لا أدق ولا أقسى ،، فهناك المبتدأ وخبره ،، والفاعل ومفعوله ،، والجار ومجروره ،، وهناك المصروف والممنوع من الصرف ،،
وترانا مع ذلك غير واثقين من أن جميع ما سطرناه كان حسب أصول الواقع أو قال كل ما كنا نريد أن نقول ،، ولكن سيغفر لنا أفق الحكمة عمرنا ،،
منذ أن أبحرنا الغمام وحتى الساعة أنا وأنت يا قلمي ،، نحاول أن نفرغ في الحرف كل ما تتناوله العين ،، وتلتقطه الأذن ويشمه الأنف وتلمسه اليد ويتذوقه اللسان ،، وكل ما يثيره ذلك من انفعالات في الفكر والفؤاد والوجدان لأحداث حصلت أو قد تحصل من حولنا ،،
إن لم يكن ذلك هو الجنون بعينه فماذا عسى الجنون أن يكون ؟! ،،
كيف للحرف يا قلمي مهما شعّ ،، أن يشع ولو بشعاع واحد من أشعة الشمس أو القمر أو أي نجم في الفضاء ؟! ،،
كيف للحرف أن يسمع دبيب الجذور وهمس البذور في التراب ؟! ،،
كيف للحرف أن يشم عبير السحاب أو أريج نسمة في الشفق أو في الغسق ؟! ،،
كيف للحرف أن يمضغ كسرة خبز في فم جائع أو يجذب قطرة ماء من شفاه عطشان ؟! ،،
كيف للحرف أن يتلمس الظلمة في حدقة الكفيف أو النور في عين البصير ؟! ،،
كيف لحرفين هما " الحاء " و " الباء " أن يتوهجا بحب نحلة لخليتها ،، ومليكتها ،، وقرصها ،، وللأزهار التي تتغلغل في أفئدتها مرات في النهار ؟! ،،
أو بحب طائر لعشه وفراخه ولمناغاة رفيقته يأتيها من أعالي القمم أو يميل إليها مع النسيم ؟! ،،
أو بحب أي مخلوق من المخلوقات لأمه الحياة ؟! ،،
كيف لحروف ثلاثة هي أ ن ا ،، أن تعبر عنك عندما تقول " أنا " أو عني عندما أقول " أنا " ؟! ،،
كيف للحروف مجتمعة أن تسلك سبل العواصف والزلازل ،، أو أن تهدر هدير البحر إذا هاج ،، وتغني أغانيه إذا سكن ؟! ،،
كيف للغمام أن يؤدي معنى " الأزل " أو معنى " الأبد " أو معنى الإنسان ؟! ،،
ها نحن يا قلمي ،، نقف على الرمال المبتلة بزخات المطر وعناق الأمواج ،،
فتعال نودع الحرف ونستغفره كل إساءة بدرت منا إلى طهارته وجماله وجلاله ،، عن وعي منا وعن غير وعي ،،
وتعال نشكر للأبعاد كل ثانية كان لنا فيها جذوة تدفئ القلب وتنير له الطريق ،،
ولننس يا قلمي ،، ما شربه الحرف من دمنا ،، ونهشه من لحمنا وامتصه من نور أجفاننا ،، واستبد به من أيامنا وأحلامنا وذكرياتنا ،،
ولنودع هذا الركن بالبركات والبسمات ،، لا بالعتاب والعبرات ،،
ثم تعال يا قلمي ،، يا نبضا في فؤادي ،، ونفسا في صدري ،، تعال نتودع ،،
ولكن ،، دونما كلام ،،
وأي الكلام يستطيع أن يعبر عما يدور في خاطرك وخاطري ساعة الوداع ؟! ،،
وأي لسان يستطيع أن يخبر ولو ببعض ما كان بيننا طوال هذه المدة ؟! ،،
وإذا كان لنا ما نتمناه قبل أن نفترق فلنتمن ،، النور الذي يبصِر ولا يبصَر ،،
والمحبة التي في قلبها النور ،،
والسلام الأعزل من كل سلاح إلا المحبة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طلبت من أحد الأصدقاء رأيه في مجموعتي القصصية ،، فأشكره على كلماته وملاحظاته التي سأحاول جاهدا العمل بها ،، ولكنه نصحني بأني أحتاج كذلك
إلى آراء الأعضاء هنا لأستفيد من ردودهم ونقدهم ،،
وكنت قد كتبت هذا الموضوع لجعله خاتمة للمجموعة ،، ولكنني أتمنى ألا ينتهي للغمام حديثا
وكل عام والجميع بألف خير