الإهداء . . إلى كل قلبٍ طيبٍ ألامته هذه الأزمة العابرة .
كان يعاني من ضيق وهم نفسي شديد ، لا تخفت ناره إلا قليلاً ، حتى وإن عاش في فترة من دون ضيق وهم نفسي ، ما هي إلا مدة قليلة حتى تزوره الضيقة والهم من جديد . اعتاد على هذا الوضع المزري لأيام طوال ، حتى بدأ يتضايق جداً من شدة التفكير السلبي الذي يعانيه ، والذي قد يوصله بكل سهوله لأحضان الجنون ! حيث أن قلقه النفسي أصبح لا يُطاق ، كما أن الحيرة التي يعيشها في مجمل حياته اليومية زادت من سوء صحته النفسية ، فأصبح لا ينام إلا بصعوبة من شدة تلك الأفكار السلبية التي تمرّه كحشود قطعان الوعول ، فتعم جميع أرجاء مساحات تفكيره !
بعد أن فكر بعمق ذهب لأحد أصدقائه الأعزاء المثقفين ، فشكا له ما يجد من عناء شديد في نومه ومجمل حياته من أثر تلك الهموم والضيقة النفسية ، وأنه لم يعد يطيق أو يتحمل أكثر مما لقي من هذه الأمور المزعجة جداً . نصحه هذا الصديق المخلص أن يتجه لطبيب نفسي مشهور وصف له عنوان عيادته ، وذكر له الصديق أن هذا الطبيب على قدر من التدين وانه يتمتع بحكمة وخبرة عريقة في هذا التخصص .
بعد تفكير بين الذهاب لهذا الطبيب النفسي وعدم الذهاب إليه ، قرر أن يذهب للطبيب ، وأن لا يلتفت لكلام الناس ، في أن الذين يذهبون للأطباء النفسيين ما هم إلا المعتوهين والمجانين فقط !
قال في نفسه : لا بد أن أذهب لهذا الطبيب ، فالناس لا يعرفون القدر الذي أعانيه من التعب ، وتلك الحالة السيئة التي وصلت إليها ، إن كلام الناس لا ينقطع ، وهم لا يجدون أي صعوبة في أن يتكلموا في كل شيء ! حتى في قشر البصلة وعيون النملة وكم يبني السنجاب لنفسه بيت في العام الواحد .
وصل لعيادة الطبيب النفسي ، وبعد أن دخل عليه في مكتبه ، فوراً قام له الطبيب ومد يده ليصافحه ، ثم ابتسم في وجهه ابتسامة رحبة يملؤها الوقار والمودة . بينما كان الطبيب يُعد الملف الجديد ، أخذ الكئيب يدقق النظر في ملامح الطبيب وفي نظارته وفي لحيته السوداء التي انتشر الشيب في وسطها وطرفيها ، وبعد أن انتهى الطبيب من إعداد الملف ، ابتسم وقال له : كيف حالك ؟
الكئيب : أنا مُتعب يا دكتور نفسياً .
الطبيب : من ماذا أنت مُتعب ؟
الكئيب: لديّ هموم كثيرة ، ضاق بها صدري ، وقلة فيها حيلتي ، ولست أعلم كيف أقضي عليها .
الطبيب : قل لي ، ما هي تلك الهموم ؟
الكئيب : دائماً يا حضرت الطبيب أُفكر في أمور سلبية مزعجة جداً ، فيضيق صدري بسببها وأعيش باضطراب وقلق نفسي مزعج طوال يومي ، وأحياناً لا أستطيع أن أذوق لذة النوم بسببها !
الطبيب : حسناً ، أذكر لي شيئاً من تلك الأفكار السلبية التي تغزو رأسك ؟
الكئيب بعد أن تردد : في الحقيقة يا حضرت الطبيب تلك الأفكار بعضها مجنون وغير منطقي ! وبعضها مضحك ! وبعضها ليس له وجود من الأساس !
هنا رفع الطبيب المعالج نضارته إلى جبينه ، ثم أعادها إلى عينيه وهو مندهش مما سمع من الكئيب .
الطبيب : أكمل لو سمحت
الكئيب : فمن شدة تفكيري بتلك الأمور المجنونة والغير منطقية والمضحكة والغير حقيقية أجدني أنغمس يا حضرت الطبيب في بئر القلق والحيرة والشتات النفسي ، فيصعب نومي وتنحسر ابتسامتي وأميل إلى الانزواء والوحدة رغم أنني كنت أحب الضحك والمُزاح والجلوس مع عائلتي وأصدقائي وزملائي . أرجوك ساعدني أنا لم آتي إلى عيادتك إلا لأني سمعت عنك أشياء جميلة شجعتني على المجيء إليك .
ابتسم الطبيب وقال للكئيب بهدوء : لو سمحت ، هل من الممكن أن تساعدني وتأتي لتقف بالقرب مني ؟
وعلى الفور قام الكئيب من كرسيه واذهب ووقف قريباً من الطبيب المعالج
الطبيب : خذ هاتفي الشخصي وضعه في جيبك لو سمحت
تناول الكئيب هاتف الطبيب على الفور ووضعه في جيبه
الطبيب : لو سمحت ، خذ أيضاً حزمة الأوراق هذه وادخلها في جيبك
اخذ الكئيب ببطء حزمة الأوراق ثم ادخلها في جيبه !
الطبيب : خذ لو سمحت دباسة الأوراق هذه واجعلها كذلك في جيبك
تناول الكئيب بدهشة دباسة الأوراق ثم وضعها في جيبه !
الطبيب : وخذ خرامة الأوراق هذه واجعلها في جيبك
وفي تردد وبطء وضع الكئيب الخرامة في جيبه !
ثم طلب منه الطبيب أن يضع في جيبه أيضاً علبة الأقلام التي على المكتبة
فقال الكئيب : عفواً حضرت الطبيب ، لقد امتلأت جيوبي من الأغراض !!
قال الطبيب : حاول أن تدخلها في إحدى جيوبك ولو بالقوة !
وبالفعل أدخل الكئيب علبة الأقلام في أحد جيوبه بعد صعوبة بالغة
قال الطبيب للكئيب : لو سمحت ، أمسك هذا الملف في يدك اليمين
فأمسك الكئيب الملف بيده اليمين .
قال الطبيب للكئيب : لو سمحت ، أمسك بيدك الشمال هذا الكتاب
فأمسك الكئيب بالكتاب في يده الشمال
قال الطبيب : هل تستطيع الآن أن تتحمل أو تطيق أو تفكر بأي شيء آخر غير تلك الأشياء الثقيلة والمختلفة التي أمسكتها في كلتا يديك ووضعتها في جيوبك ؟
قال الكئيب : لا ، لا أستطيع أتحمل أن أُمسك أو أُدخل أي شيء آخر ولو كان صغيراً إلى جيوبي !!
قال طبيب للكئيب : إن ثوبك هذا الممتلئ بالعديد من الأشياء المجنونة والمضحكة والغير منطقية وجودها فيه ، هو تماماً يشبه جسمك بالكامل الذي أدخلت عليه باختيارك وقبولك تلك الهموم والأفكار السلبية التي ذكرتها قبل قليل !! ، أنت أخذت تُدخل إلى رأسك كل هم وكل ضيق وكل تفكير سلبي من دون أن تنتبه لنفسك أو أن ترحمها ! ، إن مشكلتك الرئيسية هي أنك سمحت لنفسك ولروحك ولتفكيرك ولهمتك أن ينحدروا باتجاه الضعف الشديد ! ، لقد جعلت من شخصك عبداً للهموم والوسوسة الشيطانية ، حتى أصبحت ضعيفاً يائساً كخروف العيد المربوط ألماً الذي ينتظر سكين المُضحي ! ، يا هذا إن الوسوسة الشيطانية إن أعطيتها أُذنك وتفكيرك عزلتك عن السعادة وعن الناس وعن نور الشمس ، وهي لا تريد منك لمكافحتها سوى أمرين فقط ، الأول: أن تعي وتدرك جيداً أن حياة العباد كلهم بيد الله - عز وجل – هو من يديرها ويصرفها كيف ما يشاء ، لا بيد الشيطان . والأمر الثاني: أن تؤمن كثيراً في هذه الآية …
ثم أشار الطبيب بأصبعه نحو لوحة قد علقها في صدر مكتبه ، فأخذ الكئيب يرفع بصره إليها وهو يهمس بها : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) .