كان يراها البدر المضيء لدجنته ، والسرور لشجنه ، والأمل بين أرتال القنوط ، والوردة المتفتحة الأذكى عبيرًا في البستان ، وكانا يلتقيان عند النبع فيتناجيان إلى قرب الفجر !
كان ينسجُ خيوط الأمل ، ويمضي مع أحلامه وأمانيه ، ولم يعلم بأن الأقلام جفتْ ، والصحف رفعتْ بغير ما صبا إليه وتمناه !
في إحدى الليالي رأى في بنصرها خاتمًا وعندما استفسر منها أنبأته أنه تقدم لها شابٌّ وحددوا موعد الزفاف في منتصف الشهر القادم !
أظهر السرور ، وأخفى شجنه ، وعندما عاد إلى منزله ، اتجه إلى المنضدة وأخرج منها مغلفًا ، وبدأ يكتبُ ما يشعرُ به من حنينٍ إليها ، وحسرةٍ على ذهابها ، وفي الليلة المحددة للزفاف ، اتجه إلى مكان لقائهما عند النبع ، وطاف حوله عدة مرات ، ثم قال : ما بال قلبي اليوم على غير عادته يَجِبُ وجيبًا شديدًا كأن زلزالًا زلزله ؟!
وما بال عيني كالسماء إذا أرختْ عزاليها ؟!
وما بال أقماري تأفلُ واحدًا إثر واحدٍ ؟!
يا لله من هذا الهوى ، الذي ما إن يتمكن مني حتى يعلن صاحبه الرحيل ، أو الهجر – لتقييد ذلك الأمر لي ، وعدم قدرتي على تجاوزه - ! ويتركني في سراديب المتاهة وحدي ! لا أفرق بين ليلي ونهاري ، أتجرَّعُ الغصص والحسرات ، وأذرف العبرات حنينًا لما فات ، وفرَقًا مما هو آت !
ثم رفع ناظره إلى السماء ، وأطال النظر إلى البدر المكتمل ، ثم أطرق برأسه ، ثم رفعه أخرى إلى جهة القرية ، وقال : حبيبتي : كم آلمني الفراق ، وأسعدني في ذات اللحظة ، لأن لكِ فيه أملًا طال انتظاركِ له –لم أستطعْ تحقيقه ، لما بُثَّ بجسدي وقلبي- ، ولئن توارى بدركِ خلف غيوم الفراق ، فقد بزغَ بدرٌ آخر لا يقلُّ عنه ضياء ، وما كان لرحيلكِ أن يحول دون صبوة قلبي إليكِ !
يا لله ! أكلما أضاء بدرٌ دربي ، وبعث الطمأنينة فيه ، اغتالته أيدي الأفول ، ومزقته سيوف السِّرار !
ثم نظر إلى منتصف القرية متذكِّراً الصبية التي عادتْ مع أهلها إلى القرية بعد ظعونٍ دام أكثر من عقد من الزمان ، وقال : ربِّ : أسألكَ برحمتك ، ألا يأفلَ هذا البدر ، وأن ينير حياتي بقية عمري يا رحمن يا رحيم !
وفي الصباح ، مضى صوب ذلك المنزل ، واضعًا نصب عينيه : إذا أحببتَ فتقدَّم ، ولا تُحجم ، فما تيسَّرتِ الأمورِ وتحقَّقَتْ لمؤمِّلٍ !